♦ شَــيْــب ♦

gray.jpg

 

بينما كنت منشغلا بإنجاز بعض الأعمال في المكتب، شد انتباهي حوار يدور على مقربة مني بين اثنين من زملاء العمل، يقول أحدهما للآخر: يا أخي استمتع بشبابك قبل أن يغزو الشيب رأسك، عندئذ ستتمنى لو أنك استمتعت بكل لحظة فرطت فيها من قبل!

تركت أشغالي وانصرفت عن أعمالي، أخفيت وجهي بين راحتي، وبدأت أفكر، هل هو السر الذي لم أفطن له من قبل؟ الشيب؟ ألهذا السبب أجد صعوبة في الاستمتاع بوقتي اليوم؟ لقد غزا الشيب رأسي عندما كنت في المرحلة الإعدادية، أي عندما كان عمري اثنا عشر عاما فقط، واليوم مضى من عمري زهاء الثلاثين عاما، هل يعني ذلك أن شبابي المأسوف عليه، قد ارتحل منذ ثمانية عشر عاماً؟

عندما كنت في المرحلة الإعدادية، كانت أكثر اللحظات متعة بالنسبة لي، تلك التي أقضيها بعد الظهر مستقلا دراجتي متنقلا بين الأزقة في الحي، أذكر أن صبية في الحي المجاور حاولوا مرة الوقوف في طريقي لسرقة الدراجة، ولكني تمكنت من الهرب، ثم أصبحت أتجنب المرور من ذلك الطريق بعد ذلك، وفي مرة أخرى، في لحظة من لحظات السرحان، كدت أذهب ضحية حادث أليم، إذ عبرت الشارع دون انتباه، والحمد لله أن سلمني بانتباه السائق، الذي أسمعني صراخا ما سمعت مثله من قبل، عدت بعده إلى المنزل وكأن شيئا لم يكن، والأمر الذي أعجب منه اليوم، أن هذه الأمور حدثت والشيب كان يزين رأسي في ذلك الوقت، نعم وأنا في المرحلة الإعدادية، هل كانت تلك الذكريات في مرحلة الشيخوخة، بعد شبابي المأسوف عليه؟

في المرحلة الثانوية، خرجت مع زميلي من المدرسة بعد الحصة الثانية لشراء وجبة الفطور لمجموعة من الزملاء، وبطبيعة الحال كانت المهمة تستدعي التغيب عن الحصة الثالثة، وعند الكافتريا، كان المدير المساعد يحوم بسيارته للبحث عن المخالفين، استطعنا بذكاء وحيلة أن نموّه في الأمر فنسلم من حملة التفتيش، عدنا إلى المدرسة بالغنائم، وسارت الأمور على أتم وجه، هل كانت هذه الأحداث أيضا في شيخوختي؟

في الجامعة عندما اشتعل الرأس شيبا، كانت لنا صولات وجولات ومغامرات، طلعات ورحلات، لعب وترفيه وذكريات، لا أظنها كانت تصلح للشيوخ ولا للكهول، قضينا سنوات الدراسة بين الكد والجد، وبين السعي والعمل، كان عمري لا يتجاوز الثانية والعشرين، هل كنت شيخا عجوزا حينها دون أن أعلم؟

إن كنت كذلك يومها، فماذا أكون اليوم؟ ماذا أكون اليوم وأنا أصبغ لحيتي كل أسبوع بعد أن احتل الشيب سوادها؟ وأصبغ رأسي كل فترة لأخفي ما يمكن إخفاؤه من الشيب، يا ترى ما الذي كنت أستطيع أن أنجزه، وكيف كنت سأستمتع بشبابي إن كان قد وجب علي أن أفعل ذلك قبل أن أبلغ الثانية عشرة من عمري؟

وماذا علي أن أفعل الآن بعد أن ضاعت مني السنون والأعوام دون أن أعلم، هل يا ترى مر علي الزمان حقا، أم أن ذلك الزميل أخطأ في نظرته، فألقى اللوم على الشيب دون غيره؟

يا سيدي الكريم، يا سيدي الحكيم، إنما الشباب شباب الروح، وإني لأعرف شيوخا بلغوا السبعين من العمر، لا تزال أرواحهم تسمو على روح الشباب، فتستنهض فيهم العزائهم وتلهب فيهم الحماس، وهم الشباب ونحن بينهم الشيوخ، لم يغير الشيب فيهم همة، ولم يثن انحناء أظهرهم لهم رأيا، فاسمح لي يا سيدي، لقد نصحت وما أصبت، ولو أني أخذت بنصيحتك، لحفرت اليوم قبري، فما بعد الشيخوخة إلا الموت.

7 نوفمبر 2010

انشر الرابط

تعليقات

  1. رجفة قلم 10 أبريل 2011 at 3:10 م

    بو ياسر
    ليس صاحبك بأول من يشكو الشيب. فقديما قال قائلهم:
    يا شيبتي دومي ولا تترحّلي … وتيقّني أنّي بوصلك مولع
    قد كنت أجزع من حلولك مرّةً … والآن من خوف ارتحالك أجزع

    وقال آخر:
    الشّيب كرهٌ وكرهٌ أن يفارقني … أعجب بشيءٍ على البغضاء مودود

    دام شباب روحك
    تحياتي

  2. بثينة 10 أبريل 2011 at 6:22 م

    ههههه
    والله يا بو ياسر على حلاوة الموضوع بس سالفة الثانوية هذي اول مرة اسمعها من جذي الظاهر ما قدرت اقرص اذنك وقتها
    بارك الله لك في شبابك وجعلك من الطائعين العابدين

  3. Y.Al-Kooheji 13 أبريل 2011 at 5:08 م

    هههههههه
    انزين ليش ماخذ الموضوع شخصي ياخي ؟!! =p

  4. بو همام 14 أبريل 2011 at 12:52 م

    السلام عليكم

    موضوع جميل ومميز، يدل على تميز وجمال صاحبه.
    يعجبني من كتاباتك الالتفاف البعيد حتى تصل إلى هدفك، فعلا الخلاصة في الفقرة الأخيرة وبالأخص آخر جمله فيه.
    فعلا الشيخوخة هي شيخوخة النفس، والتشبب ليس له علاقة بالسن، فأنا مثلا ما زلت أشعر أن في مرحلة الشباب.

    دام الشرفاء والمخلصين لهذه الأمة من أهل حبيبتنا البحرين سالمين.

  5. ● بو ياسر ● 18 أبريل 2011 at 3:24 م

    الخال العزيز: جزاك الله خير على دعوتك.. المقال قديم كتبته في شبابي المأسوف عليه 🙁
    الخالة العزيزة: تقدرين تقرصين أذني الحين.. مافي مشكلة 🙂
    بو عمار: لا مب شخصي.. بس كان المفروض اهوه بعد ما يعمم
    بو همام: حياك الله بعد طول انقطاع، طبعاً بعدك شباب، وفي انتظارك الثالثة والرابعة بإذن الله، فاهم قصدي طبعا 🙂

  6. بو همام 28 أبريل 2011 at 12:13 م

    ضحكتني يا بوياسر.
    الدعوة طيبة، لكن الله يستر!!
    وأنا بدعيلك أيضا، ومثل ما يقال “ما يبطي السيل إلى من كبيرة!!” الله يوفقك.

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني