مشاعر طفل

2mpessqv8.jpg

عندما يرفع أحدنا صوته على أحد الأطفال، وهو يلهو ويلعب هنا وهناك، تتباطأ حركة ذلك الصغير ويبدأ منه سحر النظرات، ولعل بعضنا يستمتع بتلك النظرات فيتعمد زجر الصغار ليرى ردود أفعالهم، وما سحر ذلك إلا في المشاعر الداخلية التي توعز للعين بإطلاق النظرات، فتسحر الألباب، وهي صادقة بالتأكيد، وهنا تكمن روعتها، إذ لا يعرف الصغير معنى الكذب، ولا يستطيع أن يمثل المشاعر كما نفعل نحن.

مشاعر الأطفال، موجودة في داخلنا جميعاً، ولكننا نخجل من إطلاقها، وربما أجد في ذلك سبباً لكل الضغوط التي تعصرنا أحياناً، فترهقنا بقسوتها، ولو أننا عشنا تلك اللحظات كالأطفال، فبحنا بما نشعر، لكان خيراً لنا وأفضل، فلا تراكمت في داخلنا تلك الضغوط، ولا تلك المشاعر السلبية، إذ أننا تخلصنا منها في حينها.

في داخلي الكثير من مشاعر الأطفال، لا أستطيع البوح بها فهي تخجلني، ولا أستطيع كتمانها فذلك يرهقني، كما لا أستطيع تجاهلها، لأن تجاهلها يشقي ذلك الصغير الذي عرفته فيّ، تجاهلها، يؤلم الطفل الذي هو أنا، نعم أنا الطفل، وإن كنت قاربت الثلاثين اليوم، فإن في داخلي بعضاً من مشاعر الأطفال التي لا أحب أن أجري عليها دون التفات، أوما يستحق ذلك الصغير أن يُلتَفَتَ إليه؟

عندما كنت صغيراً، كان التقصير في حياتي كثيراً، ولكنه كان يُعالجُ بوصايا حانيةٍ من والدي ووالدتي، وبعتاب قاس أحياناً، وبحرمان وعقوبات في أحيانٍ أخرى، فمن يعالج تقصيري اليوم؟ وهو الذي أصبح جزءاً مني، فلا أستطيع انتزاعه مني فأخلص، ولا أستطيع السيطرة عليه فأرتاح، تقصيري اليوم، ليس ذلك الذي يكفيه توبيخ والدتي لينتهي، إنما هو تقصير في الدنيا يجر العار والوبال علي في الآخرة، فمن الذي يعالج تقصيري اليوم؟

يكلمني الطفل، فيتحدث عن التقصير، ويسأل، هل تعني تلك الفوضى التي أثرتها في غرفتك؟ أم ثوبك الذي سكبت عليه ما سكبت؟ أم صلاتك التي أخرتها قليلاً؟ أم تعني تلك الدرجات المخزية في امتحانات المدرسة؟ ولعلك تعني عراكك الأخير مع شقيقك! هل هذا هو الخطأ أم هو التقصير الذي عنيت؟

يا للصغير الذي يسكنني، لازال يظن التقصير ذاته الذي كان، لقد كبرت، وكبر الخطأ، وكبر التقصير في مفهومه وذاته، إنه التقصير الذي يجرني ويجر أمثالي إلى جهنم جراً، أعاتب نفسي وأعود إلى ربي، ولكن نفسي سرعان ما تهزمني، إنه تقصير الكبار، ليتني مثل الصغار، لا يتعدى تقصيرهم في أسوأ درجاته تأخير الصلاة، وهي لا تزال غير مكتوبة عليهم.

يالهذا الطفل الذي يعيشني، لازلت أعاني مشاعره في خلوتي، ذلك اللوم الذي كنت ألوم نفسي عندما أخفي عن والدتي شيئاً ما، أو عندما تسألني فأتقن الهرب من الإجابة، ذلك اللوم الذي كان يعتريني عندها، هو اللوم الذي يقتلني اليوم، ولكن ليس بسبب ما أخفيت عن والدتي، فقد أصبح هذا دأبي، إنما هو اللوم الذي يصرخ في أذني بصوت الضمير، فلا يسمعه من الخلائق غيري، يناديني بأعلى صوته أن قم، اصح من سباتك يا أنت، فلا مجيب له ولا سامع، ومن يجيب وسامعه في سباته، ذلك الصوت، عندما يذكرني بكل ما مضى، يذكرني بـ…

لا، لن أكتب من كل ذلك شيء، ماذا لو قرأ أحدهم ما كتبت يوماً، ماذا لو توارث أحد من بعدي أوراقي ومستنداتي، فقرأ ما بحت به لنفسي، هل أسمح بتصاغر نفسي أمام الآخرين حتى بعد مماتي؟

هذه مشاعر الكبار، يثمنون الأمور وليتهم لم يفعلوا، لو كنت أعيش بمشاعر الطفل حقاً، لكتبت وأسهبت، وعاتبت نفسي التي أسرتني طوال السنين الماضية، وكيف أنكر ذلك، وهي التي جعلتني في ضيق الحياة وبين جدرانها أقضي عمري، وتركت فسيح الأرض لأختار سجن النفس.

مشاعر الكبار هي التي تلاحقني فلا أستطيع منها فراراً، أحاول أن أعيش بمشاعر ذلك الطفل، الذي لا همّ له في الحياة سوى واجبات ينجزها ليرضي والدته، وقطعة نقدية يشتري بها الحلوى بعد الظهر، وعندما يجد هذين الأمرين، فإن الدنيا بكنوزها تكون اجتمعت له فيهما.

ذلك الطفل الذي أتحدث عنه، ليس إلا أنا، ولكن في سالف العصر والزمان، عندما كنت طفلاً، بريئاً، أحب فأقول أني أحب، وأكره فأبدي لمن أكره أني أكرهه، أتألم فأبكي، ولا أضع قدراً للعيب والعار، أفرح فيسمع الجميع ضحكاتي إذ لا مكان للوقار، يضيرني أحدهم فأبتعد عنه، بكل بساطة، لا مجاملة في ذلك، أمور تعلمتها، هي كل ما علي تنفيذه، ولا أكثر منها.

أما مشاعر الكبير، فبالله أين الصدق فيها، إذ عليّ أن أبدي الرضا في كل يوم بما لا يرضيني، وعلي أن أتبسم في وجه من لا أحب، وأن أكون بعيداً – رغماً عني – عمن أحب، لدواعي الانشغال وضيق الوقت، وربما لغير ذلك من الدواعي، علي أن أخفي دمعتي لأنها تعيب الرجل، وأن أجامل وأضحك وأمازح، في الوقت الذي تأبى نفسي كل ذلك، قائمة المهام لا تنتهي، وجدول الأعمال لا ينقضي، المصالح تدير الحياة، وانقلاب الموازين أصبح هو الصحيح، وكل شيء غيره غريب.

أليست مشاعر الأطفال أحيا لنا من مشاعرنا، وأصدق لنا من ضمائرنا؟

أما لو أنا بقينا صغاراً، أما كنا حينها أكثر سعادة بأنفسنا ونحن في أحضان والدينا ننعم بحنانهم كما كنا من قبل؟

هذه مشاعر الطفل التي أعنيها، فهل فتش كل منكم عن الطفل الذي بداخله، وسمع صوته وأحاديثه؟

19 ديسمبر 2010

انشر الرابط

تعليقات

  1. عبدالله الكندي 18 فبراير 2012 at 9:23 ص

    جزاك الله خيرا بو ياسر..
    مثل المتناقضات التي ذكرتها دائما تخطر ببالي .. مثلا..دوم أقول متى أكون مثل الطفل أزعل من حد وأراضيه بعد شوي؟
    ذكرني هذا المقال بأغنية حمزة نمرة (مرجيحة) http://www.youtube.com/watch?v=o-FR3m92TJI

    تصدق بو ياسر يمكن هذه أكثر أغنية أسمعها الآن وسبحان الله كتبت انت مقال يحمل بعض من معانيها

    تحياتي

  2. عبدالله خالد 19 فبراير 2012 at 12:19 ص

    لقد شخّصت المرض….
    لكنك لم تقدّم الدّواء….
    فهل وجدت مفتاحا ل”سجن النفس”؟؟؟؟؟
    وهل عثرت على سبيل للفرار من “مشاعر الكبار وتقصيرهم”؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

  3. بثينة 21 فبراير 2012 at 7:15 ص

    مبدع كعادتك

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني