عندما تبكي الجموع.. فراق الحبيب

 

عندما تبكي الجموع.. فراق الحبيب

مروان الحمر رحمه الله 

 

 

بخطوات متلاحقة تسابق نبضات القلب، تقدمت إلى مغسلة الأموات، لا زلت أشعر أن الموقف من وحي الخيال وليس واقعا قد حدث بالفعل، ليس اعتراضا على قضاء الله سبحانه، حاشا لله، ولكن لأن الفاجعة أكبر من أن تدخل إلى ضيق التفكير البشري.

كان ذلك الجسد المسجى، جسد أخ جمعتني به الحياة على خير ما يجتمع عليه الناس، على حب الله وسنة رسوله، وعلى كتابه الكريم، بعد تردد نظرت إلى وجهه فوجدته نائما كما رأيته مرات من قبل في السفرات والرحلات والبرامج، مبتسما كما عهدته منذ معرفتي الأولى به.

في يوم الأربعاء، السابع والعشرين من شهر شباط (فبراير) من العام 2008، وفي الساعة السابعة صباحا، وردني اتصال من أستاذي الحبيب بو عزام، كان اتصالا غريبا وغير متوقع، بعد السلام، لم أسمع غير البكاء، مع عبارات غير مرتبة التقطت منها كلمة “توفي”، استزدت وسألت حتى سمعت العبارة كاملة “مروان الحمر توفي في حادث يا بو ياسر، انظر إلى حال الدنيا.. هكذا في غمضة عين تنتهي!

كان الخبر كالصاعقة، مروان الحمر، ذلك الشاب ذو السبعة عشر عاما، الذي تربى في المساجد وعلى منهج القرآن الكريم وسنة سيد المرسلين، مروان الحمر الذي كان معنا قبل يومين في برنامج واحات القرآن الكريم، مروان الحمر الذي اجتمعنا به في السفرات والرحلات والبرامج والأنشطة التي لا تحصى، مروان الحمر، أخونا الذي لم تكتف قلوبنا من محبته بعد، هو نفسه الذي شاء الله أن يختاره من بيننا في تلك الليلة، بقضائه وقدره النافذين، له الحمد من قبل ومن بعد ولا نقول إلا ما يرضيه.

انطلقت من فوري، لا أدري إلى أين، وفي مسمعي عبارة واحدة “هكذا الدنيا، في غمضة عين تنتهي“، شريط من الذكريات يمر في ذاكرتي، في صيف العام 2000، وفي مركز يوسف فخرو لتحفيظ القرآن الكريم عندما رأيته للمرة الأولى، الطالب المتميز الذي تطرب الأذن لسماع القرآن من فيه، الذي سبق الآخرين في إلمامه بالتجويد مقارنة بسنه، صورته التي أراها الآن، دخوله حاملا مصحفه، يضمه إلى صدره، مبتسما مبادرا بالسلام، يحيي الجميع ويمسك المصحف، فيراجع حفظه ثم يتلوه تلاوة سبحان من وهبه حسنها، وبابتسامة لا تقل إشراقا عن سابقتها، يقدم دفتره لاستقبال نتيجة جهده.

الطالب الحافظ، حلو المبسم عذب الكلام، طيب الأخلاق حسن الخصال، محب الجميع، الساعي إلى الإصلاح والتطوير، الناصح الواضح، لا يواري ولا يرائي، قل في الشباب من هم مثل مروان، فسبحان الذي اختاره، لتصحو برحيله قلوبنا الغافلة، ولنعلم أن الله اختار خيرنا لنكمل نحن الطريق الذي سار عليه من قبل.

لا يزال الماضي الجميل الذي كان، يستعرض فصوله في مخيلتي، منذ أن كان في المرحلة الابتدائية وحتى مرحلته الدراسية الأخيرة، ذلك الشاب المبادر الطموح، الذي كان متميزا منذ صغره، تجده وقت الجد مندمجا متابعا، تاركا كل الأمور وراء ظهره مقبلا على ما وجب الإقبال عليه، وفي أوقات اللعب مشاركا لإخوانه حريصا على تواجده معهم، وفي أوقات المرح فإنه مروان الذي وجد لنفسه مكانا في قلوب الجميع واتخذ موقعاً متميزا بين أصحابه وأحبابه.

 

.: حافظ القرآن :.

في صيف العام 2005، وفي عصر يوم الأحد، وردتنا رسالة نصية من أستاذنا بو عزام، مفادها أن أخاكم مروان الحمر قد أنهى حفظ القرآن الكريم، بين أروقة المستشفى العسكري بالرفاع، بدأنا جميعا نهنئ أخانا، ونثني على تلك الهمة التي جعلته يحقق هدفا طالما حلم بتحقيقه، أين ومتى؟ في وقت كان يعاني فيه من آلام في القلب، إلا أن ذلك لم يثنه عن تحقيق الهدف حتى وإن كان ذلك في المستشفى.

 

.: اقرأ وارتق :.

تم اختيار مروان مع اثنين آخرين من أقرانه ليكونوا الإداريين المساعدين في مركز “اقرأ وارتق” لتحفيظ القرآن الكريم، وبالفعل فقد انتظم الشباب في ذلك المركز، ولم نجد لعزمهم نهاية، ولم يزل طلاب المركز من الصغار يذكرونهم بكل خير، وقد تميز مروان من بين أقرانه بأسبقيته إلى حفظ القرآن، فكان شامة بين الآخرين، يشار إليه بالبنان، ويحتذى به في سائر الأمور والأزمان، أسأل الله أن يكون أخونا مروان أحد قراء القرآن الذين يقال لهم يوم القيامة “اقرأ وارتق” ورتل كما كنت ترتل في الدنيا.

.: علامة مميزة :.

لئن كان أحدنا مميزا بكلامه ونبرته وشكله فإنها كلها علامات، ولكن العلامة التي عرف بها مروان، كانت ابتسامة لم تغب عن وجهه منذ أن عرفته، حتى في الأوقات التي حتمت الظروف على غيره أن يتخلوا عن ابتسامتهم، فإنه لم يتخل عنها قط، ولا زلت أذكر محياه عندما دخلت إليه في المستشفى، فكان أول ما رأيت، تلك الابتسامة التي لا تذكرنا إلا بقوة الإيمان والصبر على المرض.

.: الطريق إلى الجنة :.

في سفرة صيف العام 2005، والتي كانت تحت مسمى “رجال صدقوا”، وقف مروان مع أفراد مجموعته ليرددوا أنشودة بقيادة الحبيب أبو عبدالرحمن، مطلعها “شباب الواحات طريقه إلى القمة، يعلو إلى الجنة لا يركن للدنيا“، تذكرت هذه الكلمات في يوم وداع مروان، وتذكرت وقوفه وترداده للكلمات، وكأنما أثبت لنا جميعا أن النشيد ليس كلام يردد، وإنما كلمات يجب أن يصدق قائلها، أسأل الله أن يرفع قدرك يا مروان لتكون من أهل الفردوس الأعلى، وأن يعلي شأنك ويلحقك بالصالحين.

.: وداع الحبيب :.

في مقبرة المحرق، اجتمع آلاف المشيعين في جنازة مهيبة، تليق بقدر الفقيدين الحبيبين مروان وعبدالحميد، الصمت يخيم على المكان رغم كثرة العدد، الرؤوس مطأطئة والعبرات انفرط عقدها فروّت الأرض دموع المحبين، لا يسمع في ذلك اليوم غير النشيج والشهقات المترامية هنا وهناك، وأنا، لا زلت أحاول استيعاب الأمر، أرفع رأسي لأرى النعش محمولا، فأسأل نفسي، أمروان حقا؟ فأعود لأستعيذ من الشيطان الرجيم، وأذكر قول الله تعالى: “كل نفس ذائقة الموت“، تخنقني الدموع ولا أملك لأخي غير الدعاء وطلب الرحمة من إله، كريم، رحيم، لهو أرحم منا جميعا بعبديه، وهو أكرم الأكرمين، رب العالمين.

.: لقاؤنا في الجنة بإذن الله :.

دائما عندما نختم سفرة أو برنامجا، نتعاهد فيما بيننا أن لقاءنا الدنيوي وإن انتهى، فإن لقاء أخرويا أبديا سيجمعنا في الجنة ، وإني لأرى مروان قد سبقنا إليها، أحسب أنه كذلك، سبقنا في وفائه بالعهد الذي طالما تعاهدنا عليه، واختاره الله ليكون أول من يفي بوعده فيتحفز الفرسان لخوض غمار الميدان، متخطين الفتن والمصاعب ليلحقوا بأخيهم في مستقر رحمة الله في جنات النعيم.

.: شباب واحات القرآن الكريم :.

أعظم الله أجركم جميعا في مروان، وألحقنا به جميعا، لله دركم يا شباب الواحات، لقد رسمتم صورة واقعية أمام الجميع للجسد الواحد، والقلب الشاكر الحامد، لقد أثبتّم يا إخواني أن الصحبة بينكم ليست صحبة دنيا، وإنما هي صحبة على الله كانت وفيه اجتمعت، ولن يكون تفرقها إلا عليه، فالله الله في الثبات، لنكمل الطريق الذي سلكه أخونا، ولنحيا على ما كان عليه من حفظ القرآن والعمل به وتعليمه، ليختم الله لنا بما ختم له من حسن الختام، فنحقق العهد، وننفذ الوعد، وهناك، أعني في الجنة، سيكون لنا لقاء بإذن الله، إخوة متحابين، على سرر متقابلين.

رحمك الله يا مروان، وأسكنك فسيح جناته، إن العين والله لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا أخانا لمحزونون، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، فله ما أخذ وله ما أعطى، وإنا لله، وإنا إليه راجعون.

بو ياسر
3/3/2008

 

انشر الرابط

تعليقات

  1. بو همام 28 أبريل 2008 at 7:13 م

    سبق وأن قرأت لك محاورة بينكم وبين مروان (رحمه الله)، و إسلوب عرضها يدل على أنها محاورة حقيقية وليست محاكاه للسان الحال، فمن هذا المنطلق إستنتجت أنكم في المركز تهتمون بالتوثيق. إن صح ما إستنتج فهل يوجد تسجيل صوتي لقرآءة مروان “رحمة الله وأسكنه فسيح جناته”.

  2. admin 5 مايو 2008 at 4:24 م

    نعم أخي بو همام أعتقد أنه يوجد تسجيلات وتم تجميعها على قرص مجمع ولكن للأسف ليس لدي نسخة منه، أحاول الحصول على تسجيل منها لك

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني