تــخــرُّجٌ

 

شرّفني بعض الشباب من خريجي مدرسة الهداية الخليفية الثانوية – قبل أيام – بدعوتي لحضور حفل تخريجهم، وما كان ليسعدني أكثر من حضور الحفل، سوى دعوتهم تلك، وبالفعل، كنت متواجدا ضمن الحضور، أرمق المسرح وقد امتلأ بالخريجين، كل يرتدي لباس التخرج، والوجوه تكسوها البسمات، والهتافات تعلو من هنا وهناك، السعادة كانت تملأ المكان، والوجوه، كل الوجوه، تحكي قصة النجاح.

اتخذت لي موقعا في الخلف، وجلست منتظرا اكتمال الأعداد وحضور راعي الحفل، وكم كان في تلك اللحظات من ذكريات طافت ببالي، كم كان فيها من أحاديث وأشجان، كم كان فيها من أعوام مرت وكأنها الأمس القريب، اليوم، فوجٌ جديد يغادر الهداية، وما أشبه اليوم بالبارحة.

الهداية، ذلك الصرح العظيم الذي ظل شامخا من قرن تقريبا، ولا يزال في شموخه وعزته، ولا تزال الأجيال تمر به وترحل عنه، ثم لا ترحل الذكريات من أذهانهم، كل المدارس لها ذكرياتها وأيامها وأحداثها، غير أن الهداية تستحوذ على الذكريات الأروع، لا يغفل أبناء الهداية عن مرورهم بهذا الصرح، ولا يغفل المعلمون عن افتخارهم به.

ثمة فصول من هذا الحديث قد تكون عصية على الفهم عند البعض، ولكن أبناء الهداية يدركون المعنى كما أدرك أنا، أدرك جيدا أن مروري – وأبناء جيلي – بصرح تعليمي عريق كالهداية، كان لآبائي فيه مرور من قبل، بل ولأجدادي أيضا، واليوم يمر به جيل آخر، وستتلوه الأجيال بإذن الله، لهو تسجيل لتاريخ عريق، يشرفني جدا أن أكون منه جزءا، ويشرفني أكثر أن أكون فيه جزءا ناصعا متميزا.

جدران الهداية، وأروقة الهداية، كلها تحكي قصة الماضي ثم تربطه بالحاضر، على بعض الجدران لوحات قد لا تكون ذات قيمة عند الناس، غير أنها عند أبناء الهداية لا تقدر بثمن، ثمة صور لشخصيات مرموقة مرت بهذا الصرح، البعض منهم لا يزال يحتل المناصب، والبعض الآخر قد رحل إلى العالم الآخر، الهداية، مدرسة البحرين الأولى، ومدرسة الخليج العربي الأولى أيضا، الأولى تاريخا، والأولى قدرا.

لم يبدأ الحفل بعد، إذن، فلا يزال هناك متسع للمزيد من الذكريات..

ألتفتّ يمنةً ويسرة، أجد معلما هنا يستقبل الناس بالترحاب، وآخر يشرف على تنظيم المكان، ومعلم انشغل بتنبيه الخريجين وتوجيههم، وأنا، لم أستطع أن أخفي ابتسامتي، هؤلاء المعلمون، هم الذين كانوا يقومون بالدور نفسه في التوجيه والإرشاد قبل أربعة عشر عاما، عندما كنت طالبا في الهداية.

خشيت أن أتمادى في استرجاع الذكريات، فأصل إلى حقيقة الأمر المرة، وهي العمر الذي تقضى منذ تخرجي وحتى اليوم، ولكن، ماذا عسى معلمي يقول، وهو الذي لا يزال يكدح في نفس المكان، يمر عليه الجيل تلو الجيل، تعود الأجيال بمنجزاتها، فمنهم من يذكره ومنهم من ينساه، ولا يثنيه ذلك عن تأدية رسالته السامية، لا يجزع للنسيان، ولا يأبه للنكران، وكم للتقدير في قلبه من علو المكان والشكران.

بدأ الحفل، وبدأت الكلمات تتحدث عن الهداية، كل الكلمات لا تعطي حقا للهداية، كما لا تعطيها هذه الأسطر، ثم حانت لحظة التكريم، التي انتظرها الخريجون، فامتلأت القاعة بالصيحات والأناشيد، والدمعات والزغاريد، وما أسعدني أمر أكثر من ذلك الوفاء الذي وجدته من الطلاب لمعلميهم، كل يسارع بما أوتي من كلمات الشكر والتقدير، ويحرص على التقاط الصور لتخليد الذكريات، حقا، ما أسعد المعلم بكلمات الشكر التي لن توفيه حقه، وما أسعده بديمومة الوفاء.

احتضنت أصحابي مهنئا، وما كان لي من حديث السعادة الكثير، ذلك أن السعادة تعقد الألسن أحيانا، غادرت بعد انتهاء الحفل كما غادر جيل الهداية المكرّم، غادرت المكان، وبداخلي مشاعر رائعة، مشاعر تفيض بالسعادة لحضور مثل هذا الحفل، وتفيض بالذكريات العريقة، مشاعر ابنٍ، عاد ليرتمي بين أحضان الأم، رغم علمه أنه سرعان ما سيغادر دفء هذا الحضن، ولكن، في العام القادم فوج جديد ولا شك، وفرصة أخرى بإذن الله، لأحاديث الذكريات.

26 يونيو 2013

انشر الرابط

تعليقات

  1. ياسر الحسن 8 يوليو 2013 at 5:04 م

    أحلى مراحل عمري.. المرحلة الثانوية بمدرسة الهداية العظيمة..
    فعلاً ذكريات لن تنسى.. وجيل يتبعه جيل..
    أدام الله الصحة والعافية لمدرسينا الكرام.. وجزاهم عنا كل خير..
    بوركت أخي بوياسر على هذا المقال الرائع

  2. بو همام 9 يوليو 2013 at 8:03 ص

    فعلا جميله هي الذكريات، وأجمل مراحلها مرحلة الطفولة والدراسة.
    والأجمل منها ذكرك لأهل الفضل فضلهم و الثناء عليهم.

    ولا تجزع أخي بو ياسر من التمادي في الذاكرة، لأنها سنة الله أن الأيام لا تقف والعمر معها مرتبط لا يقف، وعزائك الله من يقرأ موضوعك هم مثلك!! ونسأل الله حسن الخاتمة.

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني