مدير

تتهيأ إدارتنا الصغيرة اليوم لاستقبال مديرها الجديد، بعد أربع سنوات لها تحت إدارة المدير السابق، الطيب الخلوق، الذي غادرنا يوم أمس واحتفت به الإدارة خير احتفاء، وارتجل بعضنا كلمات في رثائه، عفوا، في وداعه، تناولنا وجبة فطور دسمة على شرفه، وشربنا الكأس، كأس الوداع طبعا، الذي شربنا منه كثيرا طوال هذه السنوات الأربع، بمسميات أخرى وفي ظروف مختلفة.

أذكر وكأنني أشاهد الذكرى أمامي، حفل الوداع الذي كان قبل أربع سنوات، الكلمات التي ارتُجلت، والدموع التي أسكبت، والعناق، آه من ذلك العناق، أذكر تماما، كيف شيعت مجموعتنا في ذلك اليوم مديرها، وكيف، عاد الجميع إلى مكاتبهم بعد أن تأكدوا ألا عودة له، وأن مستحقاته الطائلة أصبحت في جيبه، وأنه لا سلطة له على الإدارة ولا قرار بعد، أذكر، كيف تعالت أصوات الجميع دون استثناء في شتيمته وذكر شروره، وكيف استرجعوا جميعا مواقفه الظالمة مع الموظفين ومحاباته لأصحابه المتملقين، أذكر جيدا كيف صرخ أحدهم ليختم المجلس بقوله: لا رده الله، افتكينا!

كنت جديدا حينها، صغيرا في الحياة العملية، حمدت الله وأثنيت عليه، وشكرته صادقا، إذ لم ألتحق بالعمل في هذه الإدارة إلا قبل شهر، لم يصبني فيه مما أصاب القوم، ولم أتعرض لظلم المدير الكبير، ولم يصبني من شره المستطير، حمدت الله الذي أنجاني من بطش ذلك الظالم الذي لا تزال لعائن الموظفين تلحقه كلما جاء ذكره في مجلس خير أو مجلس سوء.

رحل ذلك الظالم الذي لم أعرفه، ليتسلم مديرنا – الذي ودعناه يوم أمس – مهام الإدارة، في يومه الأول كما جرت العادة، لا بد من المرور على مكاتب الموظفين للتعرف عليهم، يمشي هو، وعلى يمينه ذات الشخص الذي رافق المدير السابق حتى أغلق باب سيارته وانصرف، بالمناسبة، هو نفسه الشخص الذي ختم المجلس قبل أربع سنوات بقوله: “لا رده الله، افتكينا!” وخلفهما زمرة من الموظفين، مبتسمين، يمشون والوقار يزفهم، يتهامسون بين الحين والحين فتزداد شفاههم انثناء بالبسمات، يضحكون كلما استظرف المدير الجديد، يفتحون له الأبواب، يهرعون له بعد كل سؤال بالجواب، ما وظيفتهم الرسمية؟ لم أجد جوابا لهذا السؤال منذ أربع سنوات.

المدير السابق، الذي خلف ذلك الظالم، لم يكن ظالما، إلا بعد أن أوصد باب سيارته بالأمس، وفور انصرافه، بدأت القصص والحكايات، ذكر أحد الموظفين أن المهمة الأولى التي قام بها فور استلامه المنصب، شراء سيارة جديدة له، واستغلال أحد الموظفين سائقا شخصيا له، برضى الموظف طبعا، الشركات التي تتعامل معها إدارتنا يملكها شخص واحد، هذا الشخص يمتلك شركتين أخريين، كان يتقدم للشركة – لرفع الحرج – بثلاث تسعيرات كل منها باسم شركة مختلفة ليقع اختيارنا على الأقل سعرا، والتي يمتلكها هو طبعا، علمت يوم أمس، أنه صهر المدير الراحل.

المدير، الذي أصبح ظالما قبل 24 ساعة فقط، تسبب في إقصاء عدد كبير من أصحاب الكفاءات، لأن بعضا من مقربيه تقدموا إليه بالشكاوى، فأصدر قرارات بنقل البعض وإنهاء خدمات البعض الآخر، دون التحقق من صحة الشكوى، بقي المدير الراحل يمارس ظلمه وجبروته أربعة أعوام، والجميع من حوله يصفقون له ويشكرون، ومن لم يفعل، كان مصيره التغييب.

رؤساء الأقسام لم تكن لهم مهمة واضحة، فالقرارات كلها بيد المدير، يصدرها هو، ويمليها على الرؤساء، الرأي رأيه، والأمر أمره، وهم، ليسوا سوى أدوات تنفيذ في قبضة سعادة المدير، فإن أصاب القرار وتبدت أمارات صحته، صفق الزملاء للمدير، كل الزملاء، حتى البنغالي المسكين، صباب القهوة، كان يصفق بحرارة كلما صفق الآخرون، دون علم بأسباب التصفيق، أما إن خاب القرار، وظهر فشل الأمر وفاحت رائحة الفساد، فاللوم كله على رئيس القسم، هو المسؤول – رسميا – عن القرار، وهو الذي كتبه ووقعه، فإما إنذار كتابي يصدر في حقه، أو إنهاء لخدماته بعد الفشل الذريع الذي وقع فيه، في إدارة لا يحب مديرها الفشل والفاشلين.

رحل المدير واللعنات تشيعه إذن، مصدوم أنا جدا، لم أكن أعلم عنه كل ذلك، وما علمت ببعضه إلا يوم أمس، واليوم علمت ببعضه الآخر.

أما الآن، فإنني مضطر للتوقف عن الكتابة، رائحة العود تفوح في الممر، المدير الجديد قد وصل، وعلى يمينه “مرافق المدراء”، وخلفهما زمرة “الزفة”، والضحكات تُسمع هاهنا، وكأنها نسخة من تلك الضحكات التي سمعتها قبل أربع سنوات، مدير جديد، الرجل المناسب في المكان المناسب، صاحب الفضل والخير والعطاء، والبذل والمنجزات المميزة حتما، وله في هذا المنصب، وهذه المميزات أربع سنوات فقط، وبعدها، سيحصل على الترقية المعهودة، ليصبح “المدير الراحل”، السارق الظالم، لا رده الله، افتكينا!

عمار الحسن
7 أبريل 2016

انشر الرابط

تعليقات

  1. عبدالله المناعي 11 أبريل 2016 at 4:28 م

    مقال اخر جميل ويحاكي الواقع

    اعجبني الإشارة ان المدير ومن تحته يتشاركون القدر نفسه من الظلم بعض النظر عن تباين المناصب.

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني