قَدَر

في يوم عادي جدا، ومع بداية أسبوع جديد، خرجت من المنزل متوجها إلى مقر عملي في أقصى جنوب البحرين، تماما كما أفعل كل يوم، أجريت المكالمات المعتادة ورسمت في ذهني خريطة العمل لهذا اليوم وتصورت المخططات والمهمات، وغرقت في تفكيري وتخطيطي كما أغرق كل يوم، حتى توقف كل ذلك التفكير على سيارة تقطع الإشارة الحمراء، لتظهر أمامي تماما وقد كنت أسوق العربة بسرعة الشارع، فما استطعت التحكم في عجلة القيادة رغم محاولتي.

أخذَت السيارة تموج بي يمنة ويسرة، وأنا متمسك بالمقود لا ألوي على شيء، وفي خضم ذلك التلاطم، إذ بسور الحماية على طرف الشارع يظهر أمامي، عندها، رفعت سبابتي ونطقت الشهادتين، استعدادا لما هو آت، صعدَت السيارة من مقدمتها على السور، وطارت في الهواء لا أدري مقدار طيرانها، كل الذي أذكره أني رأيت الدنيا تدور من حولي، فتارة يسقط تركيزي على مقود السيارة، وتارة يغطي لون الشارع الأسود زجاج السيارة الأمامي بكامله، وبعد طيران ودوران، استقرت السيارة على ظهرها، فتحت عيني، كنت مقلوبا على مقعد السيارة يثبتني عليه حزام الأمان، تلفتّ يمنة ويسرة، أدركت أن لي مع القدر موعدا لم يحن أوانه بعد، حركت يديّ فاستجابتا، أردت الخروج عاجلا، وكأنني أهرب من الموت، فتحت الحزام فسقطت على رأسي، تقلبت محاولا الخروج من نافذة السيارة وقد تهشم زجاجها وانثنت أطرافها، حتى أصبحت تكفي بالكاد لخروج شخص بمثل حجمي الصغير، ومع ازدحام الأفكار، تجمع الناس عند السيارة المقلوبة لا أرى غير أرجلهم، وأسمع أحاديثهم وتساؤلاتهم، ” إنه يتحرك، إنه حي!” حاولت الخروج، مد لي أحدهم يده فلم أستطع الخروج، أخرجت رجلي أولا فقاموا بسحبي إلى الخارج، وأسندوني على السور للاطمئنان على صحتي، والحمد لله، خرجت من هذه الحادث البليغ، بكدمات قليلة جدا، وآلام متفرقة لم تلبث أن اختفت.

أسرد الأحداث بالتفصيل، وأمزجها بمشاعري التي كانت آنذاك، لتوثيق الحادثة لنفسي أولا، حتى أعود إليها من حين لآخر فأحمد الله على فضله، وأشكره على عمر جديد كتبه لي، فالحمد له على هذا القدر والفضل له على ما وهبني من جديد العمر.

وثانيا، ليعلم أحبتي وأهلي وإخوتي، أن الأسباب مهما تمسكنا بها، فثمة قدر سابق للأسباب، يقدرّه الله لنا، وإنه لفي كتاب من قبل مولدنا، فلا ينس أحدنا أن يحمد الله على خير القدر وشره،.

أما الدرس الثالث في هذه الأسباب، أن السلامة على الطريق لها طرف بأيدينا وطرف بأيدي الآخرين، والطرفان تحركهما مشيئة الله سبحانه وتعالى، كان السبب الذي أخذت أنا به، الالتزام بربط الحزام، والتقيد بتعليمات السرعة، لكن ومع ذلك، أراد الله لي القدر الذي قدّره، عندما خالف أحدهم القانون وتجاوز الإشارة الحمراء – سامحه الله – سهوا وليس عمدا، فعرضني وعرض نفسه لهذا الخطر، ومهما تكن الأعذار، من تعب وسهر واستعجال وغير ذلك، لن تكون الأعذار مقنعة ولا مقبولة عندما يخسر أحدهم قريبا أو حبيبا، فالمشاعر في مثل هذه المواقف لا يمكن التصرف في نتائجها.

الحمدلله، ثم الحمدلله، تلك تجربة أليمة، بين آلاف التجارب الرائعة التي نمر بها، ولئن كان فيها بعض ألم، فإن فيها كثير من الخير والعبرة والأجر إن شاء الله.

 

عمار الحسن

16 يناير 2017

انشر الرابط

تعليقات

  1. عبدالله الحمادي 22 يناير 2017 at 10:21 م

    جزاك الله خيراً وأحسن الله إليك يا أخي أستاذ عمار على هذا المقال الوافي والمعبّر عبرةً وتعبيراً.

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني