إلى حبيب.. في عالم الملكوت

إلى حبيب.. في عالم الملكوت

إلى حبيب.. في عالم الملكوت

تناولت ريشتي وقرطاسي، وبدأت أخط حروف مرسالي إلى حبيب،
غاب عنا دون سابق إشعار، فكانت رسالتي إلى ذلك الحبيب الغائب في عالم الملكوت،
أعلم أنها لن تصل، وأعلم أنه لن يفرد هذه الوريقات، ولن يقف أمام الحروف،
لأنه أصبح في شأن آخر، ربما كان شأنه أرفع من أن يقرأ مراسيل الأحياء.

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

إلى أخي الحبيب، أخي الصغير في سنه، الكبير في قدره، مروان الحمر..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد..
ها قد مر على غيابك زمن قارب الشهور الثلاثة،
ولكن طيفا من أطياف المحبة لا يزال يبرز أمامي في كل غدو ورواح، في كل نوم وصحو،
في كل لحظة من لحظات هذه الحياة الرخيصة..

لو كنت تعلم يا أخي عما حدث في يوم رحيلك،
لقد كان يوم رحيلك يوم من أيام التاريخ في حياتنا جميعا،
لو كنت تعلم كم كان ذكرك يشغل الألسن التي ما فتئت تلهج بالدعاء لك،
وتثني عليك بكل ما آتاها الله من طيب القول.

لقد رأيتك في مشهد ما كنت أتصور أن أرى فيه حبيبا،
ولكنك لم تكن ميتا كما قالوا، بل كنت نيرا مبتسما سعيدا في ظاهرك والله أعلم بما خلف ذلك،
لقد كنت تبتسم في الوقت الذي بكى فيه الجميع من حولك،
أرى الوجوه وقد كسا الحزن صفحاتها، وأراك سعيدا غير مستمع لنحيب من حولك.

تجمعنا من حولك وطبعنا القبلات وأرسلنا الدعوات،
فما وجدنا منك ردا غير ابتسامتك التي عرفناها فيك علامة،
حتى أتانا أمر بالخروج، فخرجنا دون رغبة، وودعناك دون رد ينتظر،
أغلق الباب في وجوهنا وبقيت في سعادتك، ولا زال النحيب شعارنا.

لو رأيت يا أخي.. كيف كان المسجد يعج بالمصلين يومها، توافد الناس من كل مكان لتشييعك،
فاجتمعوا والدعوات نشيدهم، وحداؤهم “رحمة الله عليكما”،
على الأكتاف رأيتك ترفع، وانطلق بك المشيعون إلى الحياة الآخرة، إلى القبر الضيق في مرآه، الواسع على آهل الصلاح والرضا،
بقينا بعد الدفن عند رأسك ندعو ونبتهل، نبكيك يا أخي،
وكيف لا نبكي حبيبا كان القرآن رابطنا به، والمسجد ملتقانا معه،
كان فراقك صعبا، قدرك كبيرا ولم يزل، لكننا ما علمنا بذلك إلا حينا فقدناك،
فودعناك دون أن نملأ عيوننا منك، بل دون أن نملأ قلوبنا بك.

إخوانك الذين تربيت معهم ومعهم كبرت، الذين كانوا لك عونا وسندا في الحلو والمر،
إخوانك الذين لم تحل الحياة إلا معهم، وقفوا يعانق كل منهم الآخر، يبكونك أنت،
لم يكن على لسانهم غير اسمك، روّوا الأرض بالأدمع، ولكن لم يكن الدمع ليرد تدابير القدر،
بعضهم جلس على الأرض بعد أن خارت قواه، والبعض الآخر ظل يردد اسمك ويبكيك دون شعور بمن حوله،
أبى إخوانك أن يغادروا المقبرة حتى شارفت الشمس على المغيب، عندها خرجوا جميعا ولا يزال البكاء دأبهم.

مرت الأيام ولم يخل لقاء من ذكرك والترحم عليك، بل لم تكن خلوة دون ذكر خاتمتك التي تمنينا جميعا.. أن يرزقنا الله مثلها.

الأقلام سالت بالمداد الصادق لتعبر عن لوعة الفراق، والألسن انطلقت بكل صدق لتذكر عظيم قدرك في القلوب،
المواقع والمنتديات والصحف والنشرات، كلها تحكي رواية من الواقع،
لشاب رحل عن الحياة وترك محبة جمّعت في صميمها معاني سامية من الأخوة الصادقة.

لو كنت تعلم يا أخي عما حصل،
لكنت سعدت كثيرا بالنفوس التي اجتمعت بعد طول فراق،
والقلوب التي صفت بعد دهور من الانتظار،
لقد جعلك الله سببا للم الشمل، ونسيان كل ما مضى،
عندما آمن الجميع أن الدنيا إلى زوال فلا مكان للدنايا بيننا،
علموا جميعا أن الرحيل آت وإن تأخر مقدمه،
فعند الرحيل تصحو الضمائر، وتعود القلوب إلى ملاذها الذي هجرته في غفلة منها،
صحونا من غفلة سيطرت علينا طويلا، وبدأ كل منا يفكر في نفسه ويرسم صورة للرحيل،
كيف سيكون وماذا سيكون فيه.

أدركنا كم هي رخيصة هذه الحياة،
فما قيمة خلاف يدب في النفوس ليشعل الأضغان والأحقاد ثم يكتب الله أن نرحل، دون أن نجد الفرصة للاعتذار وطلب السماح،
أدركنا، أن الحياة ستكون أسعد بالوفاق لا بالاختلاف، وستكون أروع بالمحبة ونبذ الفرقة، بالتماسك ولم الشمل، بالاتحاد وبالحب،
نعم.. بالحب الذي أصبح أسطورة الزمان التي نسمع عنها ولا نكاد نجدها على وجه الأرض.

كم تلاقينا من بعد رحيلك فما كان حديثنا إلاّك، وكم تجمعنا فما كان لنا من قول سواك،
تجمعنا ذات يوم على الخير الذي كان بيننا، واستمر اللقاء على عادته حتى تبادرت الأنظار إلى مقعد خاو في زاوية ما،
لم يكن ذلك الجمع يكتمل إلا بك، لم نكن يوما نجتمع إلا وكنت معنا،
واليوم، شاء الله وقدر أن تسبقنا إلى الخلود،
عندها، بدأت العيون تسكب العبرات، وأطرقت الرؤوس،
صورتك لا تفارق الأذهان، انتهى اللقاء، ولم ينته البكاء،
عدنا إلى منازلنا ولا تزال الذكريات تمر بشريطها الطويل أمامنا جميعا،
وعهد الدنيا والآخرة، بتواقيعنا جميعا في ركن من أركان الذكريات، لا يزال ساريا حتى نلتقي من جديد.

بهدوء وسكينة، تقدمت لأدخل المقبرة في يوم مشمس،
حتى وصلت إلى قبرك، تذكرت يوم كانت الجموع تزلزل المكان بالدعوات وترجو لك – ولأخينا الآخر – المغفرة والرحمة،
في مهب الريح وقفت، لا أسمع غير صفير الرياح، والأتربة تلفني من كل جانب،
رأيت صورتك بابتسامتك وروحك العالية، سألت الله أن يعطيني شيئا مما أعطاك، من حسن الختام وخير الذكر وطيب الأثر،
بالأمس كنا نلتقي على ظهر الأرض أحياء لا يجمعنا غير القرآن وحب الخالق سبحانه،
واليوم، من على ظهر الأرض أزجي دعواتي راجيا الله سبحانه وتعالى أن يجعل باطن الأرض أوسع لك من ظهرها،
وأن يرحمك برحمته ويفيض عليك من واسع كرمه ومنه.

عدت أدراجي، ولسان حالي يشدو بأبيات عرفتها منذ زمن، لكنني ما عشت فحواها إلا اليوم..

 

مالي وقفت علــــى القبور مسلما
قبل الحبيب فلـــــم يــــرد جوابي
أحبيب مالــــــــــك لا ترد جوابنا
أنسيت بعدي خلــــــــــة الأحباب
قــال الحـبيب وكيف لي بجوابكم
وأنــا رهـــــين جــنادل وتــراب
أكل التــراب مــحاسني فنســيتكم
وحجــبت عن أهلي وعن أترابي
فعلـيكــم مـــني الــسلام تقطــعت
مــني ومنكــم خــــــلة الأحــباب

بو ياسر
5 يونيو 2008

 

انشر الرابط

تعليقات

  1. AboMuslim 11 يونيو 2008 at 1:40 م

    رحمه الله رحمة واسعة..لقد تأثرت بتلك الكلمات كثيراً..اللهم أحسن خاتمتنا أجمعين !

  2. أبو محمد 26 يونيو 2008 at 8:12 ص

    جزاك الله خيرا أخي على هذه المشاعر الراقية والوفاء العظيم
    وأحبك الله كما أحببت خاصته وعباده
    وعلى رغم حبنا الشديد لفقيدنا الغالي مروان فما زال فينا وفي دعوتنا من أمثاله الكثير ممن ينتظرون منا جميعا إخلاصا ومخالطة ومحاورة
    كنا ونحن صغار نترنم بأبيات المنشد الكبير أبي راتب:
    لا تقل ياسرٌ مدى الدهر فردٌ إن فينا نظيره ألف ياسر
    ولكن حقاً على مثل مروان فلتبك البواكي
    وعلى مثل شهدائنا الفتيان الأبرار في غزة فلتبك البواكي
    وعلى مثل علماء الأمة العراقيين الذين ما زال الاحتلال وأذنابه يحصدون أرواحهم فلتبك عليهم البواكي
    وحسبنا أن كل هؤلاء هم الآن فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون، لأنهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر
    نعم المولى سبحانه

  3. admin 20 أغسطس 2008 at 8:55 م

    اللهم ارحم مروان الحمر بواسع رحمتك..

    واكتب لنا ختاما كما كان له، وقبولا في أهل الأرض كما كان له..

    اللهم إننا نشتاق إلى أخينا.. فألحقنا به واجمعنا به في الفردوس الأعلى من الجنة..

  4. محمد 2 سبتمبر 2008 at 12:22 م

    رحمه الله وجزاك الله خير جزاء
    جميعنا وإياك ندعو المولى أن يحسن خاتمتنا ويتوفنا ونحن على الإيمان

  5. ● عمار الحسن ● 20 فبراير 2017 at 12:52 م

    بعد 9 سنوات.. لا تزال الذكرى تلهب القلب..
    شعور ما يتردد، مفاده أن المسافر سيعود ذات يوم، ولكن، أنى لميت أن يعود..
    اللقاء، بإذن الله في المكان الذي تواعدنا على اللقاء عنده..

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني