هلك أبو جهل، وبقي القرآن

منذ أشرقت الدنيا بفجر الإسلام العظيم، ونور القرآن الكريم، وحتى يومنا هذا، تنوعت أشكال العداء للمسلمين، وتعددت أنواع الهجوم على القرآن الكريم، فتارة، يتهم المسلمون بالطمع في الملك والسلطان كما فعلت قريش في بداية دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك، سارعت تعرض الملك والجاه عليه تداولا بينها وبينه، ظنا منها أنه سيقبل ببعض الملك والجاه ويترك لهم بعضه، هكذا كانت سطحية التفكير عند كبار قريش وسادتها.


وتارة، يتهمون بالرجعية والتخلف، والاعتماد على منهج مضى عليه أكثر من 1000 سنة، طعنا في القرآن الكريم ولمزا لأهله، ويأبى الله إلا أن يتم نوره في كل مرة، فيهلك المدعون، وإما أن ينسى ذكرهم، أو أن يظل ذكرهم في لعنات التاريخ إلى يوم القيامة، وذلك من صور حفظ الله للقرآن الكريم، مصداقا لقوله: “إنا نزلنا الذكر وإنا له لحافظون”.

في عصرنا هذا، ومع سرعة تبدل الأحوال وجريان الأمور، يظهر في كل مرة، من ينافس قريشا في غيها وطغيانها، لا أقول من المشركين ولا من عتاة الكفرة، بل، من أبناء المسلمين الذي ورثوا الإسلام من آبائهم، ولا أظنهم استقوا تعاليمه وحبه وأخلاقه وآدابه، وقد بدا ذلك في خطاباتهم ودعواتهم جليا، والمؤسف، أن لهؤلاء أتباع وأنصار، ولا عجب، فقد كان لفرعون، الذي قال: أنا ربكم الأعلى، محتجا بجريان الأنهار في مصر: “وهذه الأنهار تجري من تحتي”، كان له أنصار وجنود ووزراء، يأتمرون بأمره ويضربون بسيفه، لم يتوقف أحد منهم عند قوله ليتأمل قليلا، فيدرك أنها تجري من قبل مولد فرعون وآبائه، لكنه الغي، والطمع فيما عند السلطان، يخسر به المرء دنياه وآخرته.

يطول حديث الاستدلال، ويتشعب سرد التفاصيل، ولكن، أقف اليوم مستعينا بالله، لا أرجو من كتابتي لهذه الأسطر، إلا تسجيل شهادة أسأل الله أن يعينني على تسجيلها ببعض ما يليق بها، وأن يوفقني لطرحها لوفاء بعض حقها، ومهما أردت وفاءها فلن أفلح، ذلك أن الأمر الذي أكتب فيه شهادتي، أعظم من أن يشهد فيه أمثالي من المقصرين، وما شهادتي هذه إلا ذرة عابرة في بستان لا يرى آخره من أوله، بستان القرآن الكريم، بستان الخضرة الدائمة والإثمار المستمر، لا يفتؤ يغدق على أهله من يانع الثمار وخير الزروع، والمحروم، من توقف على أسواره معاديا أهله، فلا هو ذاق من طيب الثمر، ولا بلغ مراده أن يصيب أهل البستان بالضرر.

كانت والدتي – حفظها الله وأطال عمرها وجزاها عني وعن أخوتي كل خير – تخصص وقتا لإقرائي وأخي الأكبر قصار السور، ومع كل سورة ننهيها، كانت تزيد لنا في مصروف اليوم تشجيعا منها على الاستمرار، كنا صغارا، وكان وقت الحفظ والتسميع علينا ثقيلا، ولكن المكافأة تستحق الصبر والمثابرة، حتى أصبح ذلك جزءا من يومنا وبرنامجا أساسيا في إجازات الصيف خصوصا، الوالدة حفظها الله تحرص على الإقراء والتحفيظ، والوالد حفظه الله يتمم ذلك بالتسميع وتصحيح أحكام التجويد.

كانت إجازات الصيف بمثابة الدورة المكثفة التي لا نملك إلا خيار الانتظام فيها، وكان ذلك من خلال مراكز التحفيظ المنتشرة ولله الحمد في بلدنا، أدام الله علينا وجودها، وأدام على بلادنا أمنها وإيمانها.

لكل شيء بداية وانطلاقة، وهكذا كانت بدايتي مع مراكز التحفيظ، قرار صارم من الوالدين حفظهما الله، تبعه حبّ يتكون تدريجيا تجاه كل ما يتعلق بالقرآن الكريم وعلومه وتجويده، أما تفاصيل تلك المشاعر، فأمر عزّ أن يوصف في هذه الكلمات، ذلك شعور، أفضل الاحتفاظ به لنفسي، حتى لا أقلل شأنه بوصف لا يعطيه حقه.

أما بدايتي الحقيقية في ذلك الروض الزاهر، فقد كانت متأخرة، بعد عواصف المراهقة وسكون التحديات، مع بداية مرحلتي الجامعية، إذ يسر الله لي، أستاذا يأخذ بيدي إلى مراكز التحفيظ، معلما هذه المرة، كان يظن – جزاه الله عني كل خير – أن طاقة كامنة في ذلك الشاب، يجب توجيهها في مكان يثمر لاحقا، والقرآن الكريم خير ما نغرس فيه غرسنا، على بركة الله تعالى.

لم أكن أتصور أن تلك الأحداث، ستظل عالقة بذاكرتي حتى اليوم، بعد نحو عشرين عاما، لم تكن نعمة الله علي أن يسر لي دخول المجال لتدريس القرآن الكريم وحسب، بل الحمد له كل الحمد، والفضل كل الفضل، أن يسر لي أن أكون جزءا من القرآن الكريم ولو بخدمة تافهة لا يُنظر إليها، أسديها لطالب لا يعرفه أحد، يقرأ القرآن، في زاوية لا ينظر إليها أحد، بمسجد في حي قديم، لا يصل إليه أحد، ولو كانت هذه الخدمة أن أهديه كلمة تشجيع لا ينتبه إليها أحد، تكون انطلاقة له في مستقبل مشرق، على طريق القرآن الكريم، علم الله بكل تفاصيلها، التي لم يعلم بها أحد.

أهل القرآن الكريم الذين عرفتهم، هم أهل الخير والصلاح، هم أهل الفضل والنجاح، هم المتميزون في كل موطئ تطؤه أقدامهم، إن كان طالبا في المدرسة أو الجامعة، كان على رأس المتفوقين، وإن كان مسؤولا في مقر عمله، فهو المميز بين أقرانه والمقدم عليهم، ومزيد ذلك، إن كان بين أصحابه وزملائه، فهو المحبوب، الذي يكن له الجميع قدر الاحترام المطلوب، فلا يخل أحد بأدب ولا يزل لسانه بقول، احتراما لوجوده واجتنابا لخسارته.

أهل القرآن، هم الصحبة الذين إذا وجدوا فيّ تقصيرا، قوّموني بطيب أخلاقهم، وأدبوني بحسن أدبهم، إن رأوا مني حسنا استثمروه ليربو ويثمر فيعمنا خيره جميعا، وإن رأوا زلة عاتبني أحدهم بما لا يجرح ولا يفضح، مرآتي التي تبدي لي ما تخفيه المجاملات، ومدرستي التي أتعلم فيها دون محاضرات.

أهل القرآن، هم السعادة التي يبحث عنها أهل هذه الدنيا في كل مكان، وفي مستنقعات المعاصي والشهوات فلا يعثرون منها إلا على مزيد من الأسى والحسرة، أهل القرآن، هم الجليس الصالح الذي شبهه النبي صلى الله عليه وسلم بحامل المسك، يحذيك من طيبه، أو تبتاع منه، أما الريح الزكية، فأنى لي أن أصف ما وجدت من طيبها، كلما غادرت مجلسهم، عدت مزهوا بنصر لا يشبهه نصر، خير اكتسبته بمجالستهم، وعلم وفضل وخلق ونور، فهل مثل هؤلاء، يُزهد في صحبتهم؟

أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته، يناجي أحدهم ربه بتلاوة تعرج بها الروح إلى السماء، وتصحبها أرواح السامعين، مجلس الذكر ومحفل الخير هذا، لا يرجو حاضره أن يختتم، في كل مرة يتلى فيها القرآن، يعود كل منهم بإحساس جديد مهما تكررت الآيات، ومعنى متجدد يفيد به صحبه ويسقيهم من خير ما استقى منه، فيا أسفى على كل خاسر، لم يحظ بما حظي به أهل القرآن، وهو لهم جار، ومن خيرهم في جوار.



أكتب هذه الأسطر، في وقت عصفت فيه الفتن، وجلجل فيه الخطب، ولما لم يجد الساقطون رادعا يردعهم كلما أساؤوا لأهل الخير، تمادوا في غيهم، فتطاولوا على أهل القرآن وشككوا في نواياهم، وليس ذلك بجديد، فإنه دأب المشككين من لدن أبي جهل وسائر صناديد قريش، وحتى تقوم الساعة، حسدا من عند أنفسهم، يتربصون بمن لا يوافق أهواءهم، ظنا منهم أن ذلك يثنيه عن درب عقد العزم على المضي فيه، وتذوق حلاوته، فهل يرجع عنه بعد ذلك؟

“وهل خرج الإرهاب، إلا من حلقات التحفيظ؟”، هذه العبارة التي تكررت مؤخرا، وللأسف، سمعناها ممن يدعي الدين وينسب إليه نفسه، ويحه ما أخسره، إنما خرج الإرهاب من فئتين، فئة ظنت الدين مظهرا، فتلبسته ولم تستق من روضه الطاهر، روض القرآن الكريم، فأصبحت ألعوبة بيد الأعداء، يحركونها كيفما شاؤوا، يوجهونها لإثبات مقولتهم، ويصرفونها لتحقيق مآربهم، وفئة أخرى من غير المسلمين، مارست الإرهاب بكل صوره وأشكاله، لم ترع في مؤمن إلا ولا ذمة، أذاقت المسلمين ويلات الحروب في المشرق والمغرب، فرقت العباد ومزقت البلاد، ثم نسبت الإرهاب إلى المسلمين – ضحايا إرهابها المستمر – وأوكلت في الدفاع عنها أصحاب المقولة أعلاه، فقاموا بما أوكل إليهم بإخلاص وتفان، لهم أسماء كأسمائنا، ويتحدثون بلساننا، وقد يضمّن أحدهم حديثه آيات من القرآن وأحاديث ينقلها عن النبي صلى الله عليه وسلم، يديرها كيفما دار هواه، ليخدم بأقواله أعداء الدين، وينصرهم على المسلمين.

القرآن الكريم، هو كتاب الله المعجز، لم يستطع حجب نوره عتاة المشركين ولا بغاة المفسدين، منذ أن طغى أبو جهل وتمادى أمية، منذ أن مزق كسرى كتاب النبي صلى الله عليه وسلم، وادعى مسيلمة، رغما عن أنوف المفسدين، هولاكو وريتشارد وأذفونج وغولدامائير وغيرهم من الطغاة والعتاة، كلهم رحلوا إلى لعنات تصحبهم حيثما نزلوا، وبقي القرآن الكريم، خالدا، طاهرا، عزيزا، يحفظه وعد الله تعالى “إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون”.

 

عمار الحسن
10 يوليو 2017

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني