☺ لــقــاء ☺

لقاء

كنا ستة، أصحاب تجمعنا الحياة في أبهى صور المحبة، التقينا صغارا، ثم توطدت صداقتنا عندما التقينا في السكن الجامعي، فكانت حياة كاملة، في الشدة والرخاء، في الصبح وفي المساء، في الجد وفي اللهو، في كل وقت وحين، نسعد بالاجتماع، ونسعى للقاء، حتى كان التخرج مبدّلاً لروعة الأيام كما هي الحياة في سنة الفراق والالتقاء، عدنا إلى أرض الوطن، لينشغل كل منا بحياته والتزاماته وعائلته، وبقيت الذكريات نحنّ إليها، ولكن، تقصينا عنها مشاغل الحياة.

التقيت صدفة بصاحبي، أحد الخمسة الرائعين، جرّتنا الأحاديت جرّا إلى روعة الماضي الجميل، وبقينا نتحدث عن فلان وفلان، وعما صار وما كان، ثم اختتمنا حديثنا باتفاق على ضرورة اللقاء، نهرب باجتماعنا من سجن العمل ودوامة الحياة، إلى حديث الذكريات ولقاء الأحبة بعد انقطاع.

وبالفعل، تم ترتيب اللقاء، ومضيت تسابقني إليهم الأشواق، بحثت قبل ذهابي بين أوراقي وفي الصور والذكريات، فاخترت منها أفضلها، وحملتها معي مشتاقا للعودة إلى ذلك الماضي، إلى ذلك المنزل الصغير الذي تجمّعنا فيه من قبل، إلى الجلوس في الشرفة والتسامر في ليالي الشتاء، إلى أبطال الرواية التي شهدت أحداثها بنفسي، سيكون لقاءً رائعا، هكذا تصورته وتمنيت له أن يكون.

وصلت إلى المكان المتفق عليه، والتقينا، بدأ اللقاء جميلا كما توقعت، بل أكثر مما توقعت، ولم يسكت أحدنا عن الحديث والسؤال لمدة.. ثلاث دقائق فقط، وما أن انقضت الدقائق الثلاث، إلا تغير الحال إلى غير الحال.

اثنان من أصحابي يعملان حاليا في نفس الشركة، واثنان آخران أصبحت بينهما مصاهرة، والخامس له عمله الحر، وأنا كما أنا، المهم في الأمر، أن الدقائق الثلاث كانت هي الدقائق الثلاث الوحيدة التي جمعتنا، بعد انقضائها استدار زميلا العمل وأخذ كل منهما يناقش الآخر في مصلحة المؤسسة، وضرورة تطوير العمل، أما الآخران، فقد كان حديثهما عائليا، عن صحة أم فلان وولادة أخت فلان، والخامس، لم يرفع عينيه لحظة لينظر إلى غير جواله، رجل الأعمال منشغل بأعماله حتى أثناء لقائه الحبّي مع أصحابه القدامى، فعلا، إنهم قدامى جدا، أكل عليهم الدهر وشرب، ولم يعد يستحق أحدهم أدنى اهتمام من الآخر.

لملمت أوراقي، وذكرياتي، وحبست كلماتي في داخلي، وقررت المغادرة آسفاً على اشتياقي للقيا أصحابي، تساءلت في نفسي، أليس لي أهل كما لهم أهل؟ أليس لي عمل كما لهم عمل؟ أليس لي ما يشغلني في حياتي كما تشغلهم المشاغل؟ فلماذا كنت مشتاقاً كما لم يكونوا؟ ولماذا لم يكن اللقاء كما رجوت له أن يكون؟

نهضت منصرفا، فتحرك الجو قليلا، وتساءلوا عن سبب انصرافي المبكر، فكان عذري أنه انشغال مهم، وتركت لهم الأمر للتفكير في ماهية الانشغال، ودراسة أسباب أهميته، أو أسباب تقليلي من أهمية لقاء الأصدقاء الذي طال انتظاره.

عندما نكون في اجتماع جاد وعمل، فإننا نرفض باتفاقنا جميعا أن يشوبه شيء من ضياع الوقت والهزل، عندما نجتمع – أنا وأنت – بصفتنا شريكين في مشروع تجاري ما، فإن علاقة الصداقة التي تجمعنا لن تكون حاضرة رغم مصاحبتها لنا في كل حين، فلماذا لا نعطي صداقتنا وعلاقاتنا الأسرية والاجتماعية حقها، كيف نسمح لأعمالنا ورسمياتنا أن تعكر علينا صفو اللقاء؟

عذراً يا أصحابي الخمسة على انصرافي المبكر، ولكنني أرفض أن أكون عضواً في لقاء أخوي، لا وجود للأخوّة فيه، لقاء نستبدل إخواننا وأحبابنا فيه، بأجهزة الجوال، وأحاديث المال والأعمال.


4 يناير 2013

انشر الرابط

تعليقات

  1. خولة عقيل 6 يناير 2013 at 11:58 ص

    مقال واقعي جداً،وهذا حال أغلب اللقاءات الأخوية والعائلية، التكنولوجيا قضت على الأجواء الجميله بين الأهل والأصدقاء وأكثر الناس لايشعر بهذا التأثير السلبي ويحسبه أمراً عادياً وطبيعياً.
    وأحسنت صنعاً بمغادرة المكان،فلقاء مثل هذا بعد سنوات من الفراق لايسمى لقاء، وكيف يسمى اللقاء لقاء إن لم تنتشر بين أجوائه المشاعر الصادقة والأشواق الحارة؟
    سيدرك الناس في يوم ما أن العلاقات الاجتماعية تستحق أكثر من دقائق وساعات يقضيها البعض مع وسائلهم التكنولوجية في ساعات اللقاء،فلكل شيء حق!
    ومتى أصبحت الجمادات أهم من البشر !

    سبق أن كتبت مقالة حول نفس الموضوع على الرابط أدناه بعنوان “التكنولوجيا.. هل ألغت علاقاتنا الإجتماعية؟

    http://www.digitalqatar.qa/2011/05/10/1549

    مقالة جميلة ابن خالتي واختيار موفق للموضوع.

  2. نواف 6 يناير 2013 at 4:27 م

    هذه حال الدنيا …..لم أقصدها لكنها العذر الذي سيقولونه لك اذا ماصارحتهم دمت وفيا لإخوانك وأدام الله لك أصحابك الأوفياء

  3. بثينة 6 يناير 2013 at 10:37 م

    مقال رائع ولكنه حرّك في داخلي شجون الذكريات، إلا أنني أزيد على ذلك بأنني مع صديقات العمر لم يعد باستطاعتنا حتى ترتيب موعد يناسب الكل للقاء

  4. عبدالله بن هود 7 يناير 2013 at 12:54 ص

    احمد الله انه كتب لي لقائك في اول فصل لي وهو فصل تخرجك
    ان شاء الله اسافر معك الامارت لاسترجاع بعض الذكريات والترويح عن النفس

  5. حمد نجم 9 يناير 2013 at 11:49 ص

    مقال ذو شجون (( إن صح التعبير )) يا بوياسر
    وكما نقول بالعامية (( يبتها على الجرح ))
    (( .. تم ترتيب اللقاء، ومضيت تسابقني إليهم الأشواق .. )) كأنك تتكلم عني في هذه الجمل، هذا بالضبط ما أشعر به عندما أرتب لقاءاً لمن يعزون على قلبي من الأصدقاء.
    لا يسعني المقام للتعليق بما يجول في صدري، فالحديث (( ذو شجون ))
    دمت مبدعاً وراقياً أخي الحبيب

  6. ● بو ياسر ● 11 يناير 2013 at 4:39 م

    بنت الخالة العزيزة “خولة”.. عندما أحاول مقارنة الحال اليوم معه قبل ظهور أجهزة الجوال الحديثة، تأسرني الحيرة حقا في الوصول إلى نتيجة، محاسن التقنية كثيرة جداً، ولكننا نحن، لا نحسن الموازنة، العيب فينا قبل أن يكون في التقنية نفسها.
    شكرا لك على كريم الحضور.. كما عودتنا دوما 🙂

  7. ● بو ياسر ● 11 يناير 2013 at 4:40 م

    أخي نواف..
    الخالة العزيزة بثينة..
    صاحبي.. عبدالله بن هود..
    العزيز الرائع.. حمد نجم..

    شكرا لكم على مروركم.. شرفتموني جداً 🙂

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني