|! فساد !|

 

 

روي عن أمير المؤمنين، عمر بن عبدالعزيز رضي الله عنه، أنه قد أتي إليه في خلافته بأموال الزكاة، “فقال: أنفقوها على الفقراء والمساكين، فقالوا: ما عاد في أمة الإسلام فقراء ولا مساكين، قال: فجهزوا بها الجيوش، قالوا: جيش الإسلام يجوب الدنيا، قال: فزوجوا بها الشباب، فقالوا: من كان يريد الزواج زوج، وبقي مال، فقال: اقضوا الديون على المدينين، قضوه وبقي المال، فقال: انظروا في أهل الكتاب (المسيحيين واليهود) من كان عليه دين فسددوا عنه، ففعلوا وبقي المال، فقال: أعطوا أهل العلم، فأعطوهم وبقي مال، فقال: اشتروا به حباً وانثروه على رؤوس الجبال، لتأكل الطير من خير المسلمين“.

رحم الله عمر بن عبدالعزيز، تولى الخلافة مكرهاً، استقبلها بالبكاء والنحيب خوفا من أمانة عظيمة، ظن أنه لن يقوى عليها، وبقي على سدتها سنتين، تجري الأموال بين يديه، ترد إليه من خراج الأرض شرقا وغربا، يوزعها على المسلمين وغير المسلمين من رعيته، بل وكان للبهائم منها نصيب، وبقي هو بثوبه الخشن لا يمد يده على شيء من أموال المسلمين، يتنازل عن حقه وحق أولاده وأهل بيته، حتى انتزع “تفاحة” من في ابنه وأبكاه، خشية أن يسلك إلى جوف ابنه مالٌ، لا حق له فيه.

كثيرا ما أفكر في سيرة عمر، كثيرا ما أتوقف عند المواقف العظيمة التي سطرها عمر، وفي كل مرة لا أستطيع فرارا من المقارنة الحتمية بين عمر بن عبدالعزيز، وبين ولاة الأمر الذين لا نسمع سيرتهم إلا في أحاديث الطاعة ووجوب الولاء، وضرورة النصيحة في السر، ووأد الفتنة والتصدي لأهل الفتنة!

موظف بسيط في إحدى وزارات هذا الوطن، له في كل معاملات الوزارة فائدة ومصلحة، ولأنه المتابع لأمور المشتريات، فقد توطدت علاقته بالتجار، وهو الحريص على تخليص معاملاتهم في الوزارة، كل ذلك ليس لله في شيء، ولكن، لتخفيضات وعمولات ومصالح، يحصل عليها كلما استفادت المؤسسات من الوزارة، جوابه الجاهز كلما سمع توبيخا على استغلاله وعدم أمانته: الجميع يسير على هذا المنهج!

رئيس تنفيذي لإحدى الشركات، عقد اجتماعا طارئا حشد فيه المدراء والمسؤولين في شركته، بعدما وجد أن الشركة تسير نحو السقوط، بسبب الركود الاقتصادي الذي يعاني منه العالم بأسره، كان – على حد زعمه – يريد إصلاح الوضع المتردي، للنهوض من جديد، استعرض أمام المدراء مجموعة من الحلول، فما كان جوابهم إلا الموافقة، هكذا تكون بطانة السوء في كل مكان، لا يعترضون على قول كبيرهم خوفا على مصالحهم، كانت الحلول كما قال الرئيس العظيم، أن تم إقصاء صغار الموظفين، والإبقاء على الكبار، أما النفقات، فقد بقيت كما كانت، بل وأكثر مما كانت، لا يتنازل أحد المدراء عن درهم كان يتسلمه من قبل، إنهم ينهبون أموال الشركة التي استؤمنوا عليها، ولا يتورع أحدهم عن أكل الحرام وإطعامه لأهل بيته، ثم نشتكي بعد ذلك تدني حركة الاقتصاد، وإفلاس الشركات، وازدياد معدلات البطالة والتعطل.

وطننا الإسلامي الكبير، يتربع على عروش الثراء، تجري تحته ثروات من النفط تشكل في مجموعها ما يفوق ثلثي الاحتياطي العالمي، ومع ذلك، يستشري الجهل في مجتمعاتنا، وتنتشر البطالة، وتكثر السرقات بأشكالها وعلى جميع المستويات.

في أوطاننا، يظلم السيد فينا ضعاف القوم، ويأكل القوي فينا الضعيف، ويتجبر الغني على الفقير، بل ويأكل ماله طمعا في المزيد من المال الحرام، في أوطاننا، جاهلية كجاهلية قريش التي كانت قبل الإسلام، ومع ذلك ندعي في دستورنا أننا دولة مسلمة، والإسلام مصدر التشريع فيها.

إن الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، جاء ليخرج العباد، من عبادة العباد، إلى عبادة رب العباد، لكنكم، يا سادتنا وكبراءنا، تريدون أن تكونوا كما كان فرعون، ولشيء من الحياء بقي فيكم، تخجلون من التصريح بذلك.

يؤلمني جداً، أن أعيش في وطن ثري كما تصنفه إحصائيات العالم الكاذب، وطن ثري ينفق ثرواته وخيراته على المظاهر والتفاهات والفنون التي لا تعكس ثقافتنا أصلا، على الرياضة والمجاملات، وعلى أصحاب السعادة والسمو، وعلى بناء المسارح وتشييد القصور، بينما، يعيش بعض المواطنين تحت خط الفقر، لا يضمن بعضهم مصدرا يؤمّن منه طعاما لصغاره وأهله.

يا سادتنا، ويا ولاة أمورنا، اتقوا الله فيما وليتم عليه، فإنكم إن استقمتم، تستقيم البلاد خلفكم، وتسمو أوطاننا في العالمين، لتكون لنا السيادة بعد أن أصبحنا في العالم أتباعا، يسيرنا أعداؤنا كما يحلو لهم، فلا نملك في ذلك إلا السمع والطاعة.

السيد المدير، والموظف الصغير، وكل فاسد صغيرا كان أم كبيرا، لن يكون له في الأمر اختيار، وسيسلك مسلك الصواب مرغما كان أو مختارا، إن وجد أن الصواب هو المسلك الذي ينتهجه أهل السمو وأصحاب الجلالة.

 

11 يناير 2013

 

انشر الرابط

تعليقات

  1. خليفة 19 فبراير 2013 at 1:12 م

    أصبت أخي.. بارك الله فيك

    لعلها تصل إلى المعنيين يومًا..

  2. خوله عقيل 19 فبراير 2013 at 1:44 م

    مقاله أكثر من رائعه استمتعت بقراءتها وأنا في المطار أنتظر موعد اقلاع الطائرة
    مواقف وعبر عظيمة لمن كان له قلب، ليت هذه الكلمات تصل الى كل ظالم

    جزاك الله خيرا ابن خالتي أن شاركتنا هذه الكلمات

  3. عَدي 19 فبراير 2013 at 2:51 م

    اشتقت للحوار والنقاش ولتبادل الاراء ووجهات النظر معك.

  4. عبدالله بن هود 20 فبراير 2013 at 4:47 ص

    السلام عليكم
    اخي عمار تناقشت مع بعض الاخوة “الخليجين” عن موضوع الفساد
    وتفاجأت سرقات يجب ان تصنف تحت اسم “اكبر عشر صفات في التاريخ”
    المشكلة ان فلان المسؤول يبوق كل الخير ( دابة تمنع الخير ) وبعد ما يتقاعد او يموت يقول اذكرني بالخير …. انت تركت شي من الخير !

  5. حمد نجم 25 مارس 2013 at 10:48 ص

    في الصميم أخي بوياسر …
    لله در من بات مظلوماً وليس ظالماً ، وكان مكسبه حلالاً …
    دمت مبدعاً أخي الحبيب 🙂

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني