تاج محل

انتظرت ذلك اليوم انتظار المشتاق، خططت له كثيرا ورسمت له صورا وخيالات، فكانت الحقيقة أعظم كثيرا من ذلك الخيال، قرأت كثيرا، وبحثت أكثر، وكلما اقتربت من مدينة “أجرا”، اقتربت من موعدي الذي طال انتظاره، موعدي مع عجيبة من عجائب الدنيا، وصرح من التاريخ العريق لدولة المسلمين المغول، في عاصمتهم القديمة.

أما تاج محل، فالكتب والشبكات، تعج بالمعلومات والصور والروايات عنه، يزيدها بعضهم بشيء من التفاصيل ليضفي عليها للقارئ متعة، ويتحيز البعض إلى طرف دون آخر، أما أنا، فلست مؤرخا لأكتب عن تاج محل، ولست مصورا لأعرض ما التقطت عدستي، إنما أنا مسافر، أراد توثيق الأفكار التي راودت خاطره في ذلك اليوم، وهو ينظر إلى قصر، أو قبر، أبيض يكسوه الرخام الفخم والمرمر العتيق، وتزينه أحجار الزمرد والياقوت والفيروز واللؤلؤ، صرح يمتد على مساحات شاسعة، يسحر ألباب الزائرين، ويزيد سحرٓه انعكاسُه على صفحة النهر من الجهة الأخرى.

يفاخر أهل “أجرا” بتاج محل، ويباهون ببانيه الملك العظيم “شاهجيهان”، لا يكاد يخلو حديث أحدهم من فخر الانتساب لهذه المدينة، بل والانتساب للملك نفسه أحيانا، رغم أن سلالة الملك قد أبيدت أو طردت إلى خارج الهند بعد الاستعمار البريطاني، ورغم أن الملك وسلالته لم يكونوا هنودا بل مغولا، لكن الاستماع إلى أحاديث البسطاء من أهل البلد، لا يعدو أن يكون جزءا من السياحة والترفيه، لا تبنى عليه الثقافة ولا يستشهد به في النقل.

بين جدران الرخام في تاج محل، تكاد تسمع تقاسيما لمقطوعة على مقام الهند، مقطوعة فاخرة جدا، تأخذك إلى عالم الملوك وبحبوحتهم، أُنفق على بناء هذا الصرح الملايين، وعمل فيه عشرات الألوف، واستخدمت فيه أطنان من الرخام والآلات والمعدات، كل ذلك، تنفيذا لأوامر الملك العاشق، الذي هام بزوجته وأراد تخليد ذكرها في التاريخ، وقد فعل.

استطاع شاهجيهان رحمه الله، أن يجعل من أجرا قبلة للسياح ببنائه تاج محل، تدر إيراداته على الهند الملايين كل عام، ولا ينزل سائح في دلهي، إلا كانت زيارة تاج محل على قائمة زياراته.

IMG_3727 S

ما أستبعده جدا، أن شاهجيهان، ببنائه تاج محل، كان يفكر في استثمار يدر إيرادا على وطنه، كل الذي فكر فيه آنذاك، إرضاء نزوته وتخفيف آلامه، مستنزفا الأموال الطائلة من ميزانية الدولة لبناء قبر ترقد فيه محبوبته.

هكذا يفعل الملوك – إلا من رحم الله – على أرض الله وبأموال عباد الله، يبنون القصور ويعمرون الدور، يتقلبون على البسط الوثيرة ويرتعون في النعم، بينما يغص الشعب المسكين بعجزه عن التغيير أو حتى عن الاعتراض، هل كان شعب أجرا آنذاك يرضى بتبذير الأموال الطائلة التي هو أولى بها من مجرد قبر؟ مجرد تساؤل!

هل الفخر الذي نجده اليوم في حديث أهل أجرا بشاهجيهان وصنيعه، سيكون ذاته لو عاصروا ذلك الزمن الذي هددت فيه مطامع الأعداء مملكة المغول بسبب انشغال شاهجيهان بأحزانه، لولا أن سخر الله للبلاد قائدا يدعى أورنك زيب، ابن شاهجيهان، أقصى والده لمصلحة البلاد واستولى على الملك وأفنى عمره مجاهدا حتى وافته المنيه وهو في جهاده.

كل سائح يدخل أجرا، مهما كان دخوله عابرا وسريعا، سيلحظ في شوارعها حجم الفقر والبؤس في الناس، لا يغيب عن ذاكرتي مشهد الصغار عراة في الشوارع، ولا مشهد الأم تحمم صغيرها على قارعة الطريق، أما عربات “التكتك” المكتظة بأكثر من عشرة أشخاص أحيانا، فقد أصبحت معلما من معالم أجرا، يشير إليها المرشدون ضاحكين، وكأنها نكتة أو طرفة يسترقون بها ابتسامات السياح، مشاهد الجواميس في الشوارع وهي تعطى من القدر أكثر مما يعطى البشر، الرجال والنساء، يقتربون من السيارات لعل أحد السياح يحنو عليهم بصدقة، يزجرهم المرشدون والسواق عن ذلك، خوفا من تشويه “السياحة” في أجرا.

لست أدري حقيقة عن وضع الناس في أيام شاهجيهان، ولست أدري إن كانوا قد أعجبوا بالصرح الخالد أم تهامسوا ساخطين على هذا التبذير، ولا أدري إن كانت الحفلات أقيمت بهجة بافتتاح الصرح آنذاك، وتصدر الخبر الصحف والأخبار، لا أدري عن كل ذلك، ولكني رأيت اليوم، أن الفقراء في أجرا، لم يغنهم وجود تاج محل من فقرهم، ولم يكن لتوافد السياح مردود يرى في أهل المنطقة، لئن أسرف شاهجيهان قبل أربعة قرون في بناء الصرح، فثمة من يستغل الصرح اليوم، على حساب غيره، هكذا يستمر الاستغلال عبر الأزمان، ليزداد الغني غنى، ويزداد الفقير بؤسا.

buyaser2

28 مايو 2016

 

 

انشر الرابط

تعليقات

  1. دعيج 15 يونيو 2016 at 1:27 ص

    في بداية كلامك.. شوقتني للمكان.. وعورت قلبي في نهايته

    لكنك صورت القصة تصوير ادبي جميل.. تسلم اناملك يالحبيب

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني