استكانة شاي

نزلت إلى بهو الفندق، بعد يوم تصرمت ساعاته في الأعمال النظرية، واللقاءات الحافلة بالمجاملات، ظننت أني أستحق رشفة من الشاي، أكافئ بها نفسي على أي شيء، أختم بها يومي، ليس ثمة داع لتحديد الهدف هنا، الشاي يُشرب لمجرد المتعة، لأنه (شاي) وحسب.

نحن في البحرين وبعض دول الخليج نسميه (چاي)، بالحرف الأعجمي، ويسميه البعض (شاهي)، والبعض الآخر (شاي) بتفخيم الألف، وفي بعض الدول العربية بترقيقها وبعضهم بقصرها أيضا، (شَي)، هكذا فقط.

إن كان للشاي كل هذه الأسماء في لهجاتنا العربية فقط، فلا عجب أن تتعدد فيه الأسماء والثقافات على امتداد هذا العالم الواسع.

أصبح اسم الشاي عندنا، مرتبطا بالضيافة ارتباطا وثيقا، فقد يلمّح أحدهم إلى رغبته في استضافتك بقوله: “حياك، نشرب بعض الشاي”، لذلك نجد الشاي حاضرا في الأحاديث والاجتماعات، الرسمية منها وغير الرسمية، حتى أننا نقول: سنلتقي على استكانة شاي، والمقصود ليس استكانة الشاي نفسها، بل الحديث الذي سيكون اللقاء من أجله.

الشاي التركي

طلبت من النادل (استكانة) شاي، طلبتها منه باللغة الإنجليزية، لكنه لم يلبّ الطلب مباشرة، بل كرر السؤال مرة أخرى بكلمة: “چاي؟”، هكذا كما ننطقها في لهجتنا تماما، ظننته يمازحني، أو يشير إلى إلمامه بشيء من لغتنا، فابتسمت له وقلت، نعم، چاي.

عاد النادل إليّ، بكوب زجاجي لا يحجب الشاي بداخله، ليس استكانة بل كوباً، والشاي الذي فيه لم يكن كما طلبت، بل كان شايا بالحليب! قلت له: لم أطلب شايا بالحليب! قال: بلى قد طلبت، هذا هو الچاي عندنا، ولو أردته بدون الحليب كان عليك أن تحدد الطلب بقولك: شاي أسود.

ثم أخذ الكوب وهو ينظر إليّ نظر المستاء، ليس لأنه سيغير الطلب، بل لأنه يظن أني لم أقدّر الشاي الذي يراه وقومه أفضل أنواع الشاي على الإطلاق، الشاي بالحليب.

حصل ذلك الموقف في جنوب الهند، يسمونه شاي كيرلا، يُطبخ الحليب حتى الغليان، ثم يضاف الشاي المجفف المطحون على الحليب، حتى يأخذ اللون الذهبي – كما يسمونه – رغم أنه ليس ذهبيا تماما، هو لون فريد جدا، متعة للبصر قبل اللسان، بعضهم يفضله هكذا، حليب وشاي، والبعض الآخر يستحسنه بقليل من الهيل.

مزارع الشاي هناك تمثل مدنا بأكملها، تدخل المدينة وتخرج منها فلا تغيب مزارع الشاي عن عينيك لحظة، العاملات يحصدن أوراقه طوال النهار، تُكسِب زروعَه السهولَ خضرةً وبهاء، وعبيرا مميزا يحمله إليك النسيم كلما هب، ولو تعمقت في سهول الشاي أكثر، ومشيت بين زروعه، لأدركت أن القائمين عليه يغمرونه بحنان ودلال وحب ، يهتمون بشكل الشجيرة الواحدة وتقليمها وقامتها، ليكون السهل كله لوحة فاتنة، تحبس أنظار الزائرين بجمالها.

في شمال الهند، دلهي وما حولها، لا يشربون الشاي إلا مطبوخا بالحليب كما يفعل أهل الجنوب، لكن مع إضافة الهيل والزنجبيل وربما بعض القرنفل والقرفة أيضا، يسمونه شاي الـ “ماسالا”، طعمه لاذع، يسبب حرقة بسيطة في اللسان مع أول رشفة، ثم يعتاده اللسان بعد ذلك، وقد يدمن شربه البعض، مفيد لتقوية المناعة كما يزعم الهنود.

في كشمير، أقصى شمال الهند، لا يُشرب الشاي الأسود (الأحمر) إلا لمجاملة الضيوف الذين لا يعرفون الشاي الكشميري، ولو تذوقه هؤلاء الضيوف لعدلوا عن سواه واستمتعوا به متى أتيحت لهم الفرصة، ويسمونه القهوة الكشميرية، رغم أنه شاي!

في الصباح وفي المساء، يشرب الكشميريون هذا الشاي، ولا يكتفون منه باستكانة واحدة أو كوب واحد، إنما يشربون منه حتى ينفض المجلس، أو يفرغ الإبريق.

الشاي الكشميري عبارة عن شاي أخضر، منقوع في الماء الساخن، يُنقع ولا يُعد على النار، يضاف له الهيل والزعفران والقرفة وكثير من السكر، يباع في كل مكان جاهزا مخلوطا للكسالى أمثالي، ممن لا يفضلون تضييع الجهد في ضبط الكميات، كل رشفة من الشاي الكشميري تعود بي إلى تلك المناظر الخلابة والأجواء الباردة، على مصبات الأنهار وجداول المياه.

ولعل أغرب ما رأيت من ثقافات الشاي، ما كان في كشمير أيضا، عندما التقيت فيها لأول مرة من يشرب الشاي بالحليب، صباحا مع وجبة الفطور، سألته عما يشرب، فقال: شاي الفطور الكشميري، بالحليب، هل تريد تجربته؟ قلت نعم، وياليتني ما قلت، حليب، مضاف له بعض الشاي، الأحمر أو الأخضر لست متأكدا، ولكنه يُشرب بإضافة الملح وليس السكّر، أيّ طعم مؤسف، وأية تجربة ليتها لم تكن.

في زيارة للهند أخرى مع والدتي وخالتي حفظهما الله، ذهبنا إلى السوق، إلى دكان عبدالسلام، فقدم لنا أكواب الشاي مع بعض المكسرات، ولأن أمي وخالتي تعشقان الشاي أيضا، فقد تبادلتا النظرات والهمسات بعد الرشفة الأولى مباشرة، فهمت المعنى فسألت عبدالسلام عن الشاي، فقال أنه ليس سوى شاي أسود، مع بعض البهارات الهندية، وبعد إلحاح، علمت أنه يحتوي على الهيل والزعفران والقرفة وقليل من الزنجبيل، كان رائعا جدا، ولو علمت مكوناته قبل شربه ما ظننت أني أستسيغه، غير أن التجربة كانت على تميزه خير برهان.

لي صاحب تركي، دعوته على الفطور مرة هناك، في تركيا، في الشقة التي أقيم فيها، تفننت في إعداد الفطور، ولأن الجو كان باردا، فقد أعددت الحليب المغلي مع الزنجبيل، كانت زيارتي الأولى أو الثانية لتركيا، لم أكتشف ثوابت القوم بعد، وفكرت أن صاحبنا قد لا يعجبه الحليب وحده، فتركت له أكياس الشاي ليضيفها حسب رغبته، أقبل الضيف ولما أراد أن يشرب الحليب، قدمت له أكياس الشاي، فقبلها مجاملة لي، ولعله شربه مكرها.

بعد أعوام، كنت معه، الصديق نفسه، نشرب الشاي التركي في مقهى شعبي، الاستكانة تلو الأخرى، لم يخفَ عليه استمتاعي بالشاي وطلبي للمزيد بعد كل استكانة، فإذا وجهه يتمعر ازدراءً لأمر ما، ثم انطلق في الحديث عما أثار حفيظته وقال: أنتم، تضيفون الحليب للشاي، ومعه بعض الهيل! هل هكذا يُشرب الشاي؟ قلت له أن لذلك الشاي لذته الخاصة أيضا، نحن نشربه صباحا على الفطور، لكنه هز رأسا رافضا الفكرة: لا لا، إما أن يكون الشاي كهذا، وإلا فلا!

في تركيا، يُشرب الشاي منقوعا، بكميات كبيرة من أوراق الشاي في كمية متوسطة من الماء المغلي، يصبح الشاي حالك السواد، ثم يمزج الشارب الشاي المركز بالماء حسب رغبته، يكون طعمه في المرات الأولى قاسيا، ثم يصبح رائعا مع الوقت، فلا يكتفي منه شاربه.

في العراق يشربونه ثقيلا أيضا، ولكن مطبوخا مع الهيل، الاستكانة الصغيرة لا تشبع رغبتهم، لذلك، يشربونه في كؤوس كبيرة، تشبه كؤوس “الجبن” التي لا يستلذ بعضنا الشاي إلا فيها، وبعض أهل الشام قد يفعلون ذلك أيضا.

في مصر يشربونه منقوعا أو مطبوخا مع ترك بعض أوراق الشاي في قاع الكأس، يخبرني صديق مصري عزيز، أن الرشفات الأخيرة تمثل قمة الاستمتاع لعشاق الشاي، لأن التركيز يصل ذروته، لم أجرب الشاي المصري بعد، غير أن صاحبي يعيد وصفه لذلك الشاي كلما التقينا، سواء كان الشاي حاضرا في لقائنا أم لم يكن.

هناك من يشرب الشاي مع النعناع، وهناك من يفضله مع ماء الورد والزعفران، والبعض يحب الشاي وحده دون إضافات، المهم، أن الجميع متفق على حبه، ولا يسلم من لا يحبه من تشكيك أقرانه في سلامة عقله، هكذا يفعل الشاي بعقول الشاربين.

3 يونيو 2020

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني