عنصرية

في ليلة من الليالي التي لا تنسى، وفي خضم الامتحانات الفصلية، تعرضت لحادثة ما، كان الأمر عاجلا يستلزم الذهاب للمستشفى فورا، بادر زميل لي بأخذي للمستشفى القريب من السكن الجامعي إذ لم أكن أملك سيارة، نزلت من السيارة مسرعا إلى مكتب استقبال المستشفى، كان موظف الاستقبال من غير أهل البلد، وكانت المرة الأولى التي أحتاج فيها لزيارة المستشفى في فترة دراستي.

تأمل الموظف بطاقتي طويلا، وقلبها مرارا، ثم وضعها مقلوبة على منضدة الاستقبال، وأزاحها بقوة حتى كادت تسقط على الأرض وهو يقول: المستشفى للمواطنين فقط، وليس للوافدين! أدار ظهره وانصرف ينهي أعمالا أخرى!

وقفت ولم أتحرك، لم أستوعب التصرف، ناديته فعاد، طلبت منه التوضيح فأعاد: المستشفى للمواطنين فقط، الكلام واضح، لا يمكننا معالجتك!

أحسست نارا تشتعل في صدري لا أستطيع نسيان ذلك الشعور، جلست على كرسي هناك، وبقيت أفكر، لم يبق من مشاعر القهر شيء لم يدر في بالي، كنت أعتبر نفسي في غربة – رغم أنها لم تكن كذلك – وبقيت أتأمل حال نفسي، والانكسار الذي ألمّ بي، وكيف يُقهر الغريب فوق غربته بمثل هذا التعامل، مع إدراكي التام أن التصرف كان فرديا من ذلك الموظف، وأن أحدا في ذلك البلد لم يكن ليقبل مثل هذا التعامل، أثبت هذا اليقين صاحبي الذي كان معي، إذ زلزل المستشفى من شدة غضبه، حتى أذعن له الموظفون وقبلوا معالجتي.

التفريق بين الناس وتقسيمهم إلى مستويات ومنازل أمر مقيت وسافل، علينا أن نؤمن بذلك أكثر من غيرنا، ونحن أتباع خير الخلق عليه الصلاة والسلام، ما فائدة اطلاعنا على السيرة النبوية وقراءة قصصها وتفاصيلها، إن لم نكن نتوقف عند المواقف نستقي منها الدروس؟

كان أبو ذر رضي الله عنه سيد غفار، سبق إلى الإسلام ودعا إليه قومه، فأسلم معه من أسلم ولحق الباقون بالإسلام فيما بعد، له من الفضائل في الإسلام ما له، تأخر بعيره على الركب يوم تبوك، فإذا رجل يقول: “إن هذا لرجل يمشي على الطريق”، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “كن أبا ذر”، هذا بعض فضل أبي ذر الذي أردنا أن ندلل عليه بموقف واحد، وما أكثر المواقف.

عيّر أبو ذر بلالا رضي الله عنهما بلونه وأمه، تمعّر وجه النبي غضبا، وقال مقولته الشريفة الشهيرة: أعيّرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية!

وقف النبي صلى الله عليه وسلم موقف الحازم الصارم أمام العنصرية دون أن يفرد لأبي ذر موقفا خاصا أو أسلوبا يليق بمكانته في الإسلام، كان موقف النبي صلى الله عليه وسلم درسا، يدرّس إلى هذا اليوم، كلكم لآدم، وآدم من تراب، لا فرق لعربي على عجمي ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى.

مكّن الله لنا من لدنه فضلا، عندما أوفد إلينا من عباده من يسعنا أن نكرمهم بفضل الله تعالى، فنحوز رضاه بخير سلكنا بابه، فكيف بمن تعالى على الضعفاء واعتبر نفسه في مرتبة فوقية تعلوهم، وأمعن في احتقارهم وإذلالهم، نسي أن الرزق يكفله الله، وأن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، وأنه سبحانه يبدل الحال إن شاء، فيجعل أعزة القوم أذلتهم، وعلى الباغي تدور الدوائر.

أبريل 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني