أبو قرجة

لا أظن أحد الزملاء في دفعتنا يجهل أبا قرجة، الطالب الطويل، أسمر اللون، كثير الضحك وبصوت عال، لا يتحدث إلا ويسمع كل الحاضرين حديثه، لم يسلم من أذيته أحد، كنت أظن “أبا قرجة” لقبا أطلق عليه للتحقير فلم أكن أناديه به – ولم أكن لأناديه أصلا – لكنه كان اسم أبيه، اسمه مختار أبو قرجة، معروف مشهور، ولعل اسمه ساعده في شهرته.

عرفته أول عام دراسي، عندما كنا في محاضرة الساعة الثامنة صباحا، المحاضرة التي نفرّ منها فرار الخائف على المصير القادم، بدأ الأستاذ الشرح واسترسل فيه، وإذ بطارق يكاد يكسر الباب، فإذا هو أبو قرجة، لم يعاتبه الأستاذ ولم يبد اعتراضا، فالكل يريد أن يسلم من أذية أبي قرجة حتى الأستاذ، دخل بتحية مزلزلة، وجلس في مقدمة الصفوف، أمام الأستاذ تماما، وما هي إلا دقائق معدودة، حتى وضع رأسه على الدرج، ونام!

ضحكنا جميعا، فأشار إلينا الأستاذ أن اهدؤوا، نوم هذا عبادة محببة عندي، فاتركوه، واصل الأستاذ الدرس، لكن شخيرا مزعجا تعالى صوته في الأنحاء، إنه أبو قرجة من جديد، نائم في مقدمة الفصل وشخيره ربما يحجب صوت الأستاذ، ومع ذلك، لم يعترض الأستاذ، واكتفى بابتسامة، وواصل الشرح.

دقائق أخرى مرت، وإذ بهاتف يرن ويرتفع صوته تدريجيا، التفت الأستاذ غاضبا هذه المرة: ألا يكفينا شخير صاحبكم؟ أغلقوا هواتفكم لو سمحتم! لكن الضحك عمّ المكان ردا على الأستاذ، لأنه كان هاتف أبي قرجة أيضا.

على مرّ الأعوام التي قضيتها في الدراسة، لم أكن موفقا في كسب الناس من حولي، لم أستطع تكوين صداقات إلا قليلا، في أغلب المحاضرات التي كنت أحضرها، كنت أجلس وحيدا لا أشارك الآخرين حديثهم ولا أدخل في نقاشات أو تفاصيل، التقيت أبا قرجة مرة أخرى في مادة أخرى بعد عام، كان نجم شهرته قد سطع أكثر من ذي قبل، لم أكن أرفع يدي لمشاركة إلا واتخذ أبو قرجة الموضوع فرصة للتعليق والضحك، إما سخرية من لهجتي البحرينية، أو من غير سبب، المهم أنه وجد في ذلك الفتى القاصي ما يشبع سفاهته، وأنا، كنت أتجاهله بكل الطرق، إلا من رد مختصر هنا أو هناك، كلمة أو بعض كلمة.

طلب الأستاذ مرة أن يكوّن كل شخصين منا مجموعة لمشروع بسيط، ستكون درجاته بمثابة تعويض عن أي نقص في الامتحانات الفصلية، ولأني أبعدت نفسي عن الصداقات والعلاقات، لم أحظ بزميل يعرفني وأعرفه، ولم يكن في الفصل منبوذ لا يريد العمل معه أحد، سوى ذلك الغريب الصامت، وذلك المزعج، المسمى أبو قرجة، فكوّن الاثنان مجموعتهما لتنفيذ المشروع.

حان وقت التسليم، ولم يساهم أبو قرجة في المشروع حتى بدعوة صالحة، قمت بتسليم المشروع وحدي، ووضعت اسم أبي قرجة معي، لكن الدكتور الفاضل استدعى أبا قرجة وسأله بعض الأسئلة، فتبين له أنه لم يساهم في المشروع، فقرر أن نحصل أنا وأبو قرجة على (صفر)، هكذا، لأن الهدف من المشروع هو العمل الجماعي، وهو ما لم تحققه مجموعتنا.

لم يتوقف أبو قرجة عن مغامراته ومشاغباته، إلى عامنا الأخير، حتى ظن نفسه قادرا على استفزاز الجميع دون عقوبة رادعة، بدأ بالتطاول على الأباعد، لتتسع دائرة إزعاجه أكثر من أي وقت مضى، لكنه أخطأ التقدير، عندما حاول استفزاز (مولانا)، الطالب الألباني مفتول العضلات، كان صديقا عزيزا، تعرفت عليه في الفصول السابقة، ضخم الجثة عظيم البنيان، أسير معه إلى المسجد أحيانا فلا يكاد ينتبه لوجودي أحد من ضآلة حجمي إلى ضخامة بنيته.

قام أبو قرجة باستفزاز مولانا، في يوم حار جدا من أيام الصيف، وفي يوم عصيب يعمل فيه الطلاب على تسليم البحوث ولملمة الشتات، وجدها مولانا فرصة ذهبية لتفريغ الضغط الذي يعانيه في شيء يستحق، أخذ بتلابيب أبي قرجة، رفعه إلى الأعلى وأنزله على طاولة المختبر، وضربه ضرب المنتقم لكل أحباب القلب الشاكين على مدى ما مر من السنين، لم ينقذ أبا قرجة من بين يدي مولانا إلا بعض الشهود، ممن ظنوا أن العقوبة باتت كافية، فانتزعوه انتزاعا، وبقي مولانا في زاوية المختبر ينفث الشرر، البعض يحاول تهدئته من ناحية، والبعض الآخر يدعو له أن تسلم يداه على ما حقق من ناحية أخرى.

لم يكن أبو قرجة بعد ذلك اليوم، ليستفز أحدا، لأنه كلما مشى في الجامعة أو في السكن تهامس الناس من حوله وضحكوا، أصبح عبرة لكل سفيه متماد جهل أنها على الباغي تدور الدوائر.

كم من أبي قرجة عرفنا ونعرف، كان صمتنا عنه سببا في تماديه، وكان حِلمنا وانتظارنا لمن يأخذ بتلابيبه، فرصة له لمزيد من الاستفزاز والعبث، إن كان بيدك أن توقف أحد هؤلاء عند حده، فافعل، ولا تنتظر أحدا غيرك، حتى هذا اليوم، كلما تذكرت قصة أبي قرجة، دعوت لمولانا أن يسلمه الله من كل شر وأن يحفظه حيثما كان، وأن يبارك فيه ويعلي شأن الحق على يديه.

8 يونيو 2020
انشر الرابط

تعليقات

  1. علي الحسن 9 يونيو 2020 at 9:21 ص

    قصة رائعة
    نعم .. دائما و في كل مكان هناك أمثال مولانا ممن لا يرتضون الخطأ و الإستفزاز و يكونون على قدر لا يستهان به من العدل والشجاعة والقوة و لكن للأسف أمثاله يتم محاربتهم و إقصائهم.

    و أيضا هناك أمثال أبي قرجة .. الإتكاليون، المهملون، المتقاعسون و إضافة إلى ذلك فأنهم لم يرّبوا أنفسم على الإحترام و للأسف تجدهم في مناصب عليا.

    ببساطة الثاني بالعامية ( نقدر نتعامل معاه)، (يمشي لنا مصالحنه) أما الأول (لا ذي صعب نتعامل وياه)، ( بيغربلنه و يكشف ملفاتنه)

  2. سلمان 9 يونيو 2020 at 10:46 ص

    رائع يا عمار

  3. عبدالرحمن المحسن 9 يونيو 2020 at 11:40 ص

    أحسنت اخوية العزيز
    فعلاً على الباغي تدور الدوائر.
    ومهما كبر الإنسان وتعاظم شأنه وبلغ مبلغه، هناك من هو أعظم منه.

  4. عبدالله موسى 9 يونيو 2020 at 12:19 م

    سرد جميل جعلني أحوقل وأبتسم وأضحك ..

    جميل جدا يا عمار ، وحقيقة إني سعدت جدا بسالفة التكفيخ

  5. عمار الحسن 9 يونيو 2020 at 1:18 م

    ولد العم العزيز، شكرا لزيارتك المدونة..
    العزيز بو علي، شكرا لك وحياك الله..
    الصديق عبدالرحمن، لا يزال يسعدني مرورك المستمر، شكرا لك..
    الصديق العزيز أبو صبا، حياك الله، جميل أن أجد من كان معي في تلك الأحداث ويذكرها كما أذكرها، لكأني أرى أحداثها رأي العين 🙂

  6. محمود الخباز 9 يونيو 2020 at 4:42 م

    قصه رائعة واسلوب أروع في الطرح

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني