ثراءٌ

بقي على وصول الحافلة خمس دقائق فقط، مرت الدقائق الخمس والحافلة لم تصل، أهكذا التزام الأجانب بالمواعيد، الذي ضُرب لنا به في كل قصة مثلا؟

بعد ربع ساعة أو أكثر، قررت الاتصال على الرقم المكتوب أسفل الجدول، ذكر لي الموظف أن مواعيد الحافلة قد تغيرت ابتداء من اليوم، ويمكنني الحصول على الجدول الجديد في الموقع الخاص بمواصلات المنطقة ، تبين أن الحافلة قد غادرت قبل وصولي بدقائق قليلة جدا، وعلينا الانتظار طويلا حتى تصل الحافلة التالية.

قررنا أن نطلب سيارة أجرة بدلا من الانتظار أكثر، وصلت السيارة بعد لحظات، بعد التحية، أخذ السائق الآسيوي يرمقني بنظرات متفرقة، يطالع الطريق قليلا ثم يعود للتأمل في خلقتي، حتى مللت الأمر وسألته: خيرا؟

قال: أمن اليمن أنت؟ قلت لا، قال: فمن العراق إذن؟ قلت لا، قال: إيران؟ قلت لا! قال: فمن أين؟ قلت: من البحرين.

قال: وما البحرين؟ قلت: هناك، في الخليج العربي، حيث السعودية ودبي، قال: حقا؟ أنت من الخليج؟ قلت نعم!

وفي داخلي تساؤلات وحيرة، هل كان يظن أهل الخليج أشبه بأهل الفضاء مثلا؟ هل ثمة شارة أو شامة كان علي أن أكشفها له قبل أن تشرف بي سيارته؟ لم أطق مزيدا من الأسئلة فبادرت بالسؤال: وما الغريب في الأمر؟

قال: عفوا، ولكنكم في الخليج، فاحشو الثراء، تتربعون على حقول من النفط، ومع ذلك تنتظر أنت عند محطة الحافلات! كان بإمكانك أن تطلب أفخم ليموزين للتنقل في المدينة، بدلا من ذلك الانتظار!

صمتّ قليلا، ثم لم أستطع الصمت أكثر، قلت له: هل تعتقد أن حقول النفط التي تحدثت عنها، تخصني شخصيا، أو عائلتي أو حتى عموم الناس في وطني؟ وكيف علمت أنني ثري حد البطر الذي وصفت؟ أوما علمت بأنني ادخرت على حساب راحتي من راتبي وعلى مدى سنوات طوال ما ادخرت، ثم اقترضت فوق ادخاري من البنك مبلغا آخر، فقط من أجل أن أحظى بشهر عسل هنا في هذا المكان!

أما وصفك للأثرياء، فهو دليل عدم اطلاعك على أحوالهم، الأثرياء الذين لا تعرفهم، هم الذين يركبون الحافلات والعربات الكهربائية ولو أتيح لهم أن يسيروا على أقدامهم لتوفير مبلغ المواصلات ما ترددوا، جل الأثرياء الذين عرفتهم أنا، يكنزون الأموال ولا يستمتعون بها، يحرصون على الفلس الأحمر حرصك على الدولار الأخضر، ولو رأيتهم كما رأيتهم أنا، يساومون البائع في أفلاس زادت على سعر البضاعة الزهيدة أصلا، من أجل تحقيق مكسب نراه نحن لا يُذكر، فقط كي يسجل انتصارا على البائع، لو رأيتهم لعلمت من ملامح الثراء ما يغنيك عن التفرس في وجهي لحظة دخولي إلى سيارتك.

في مكان آخر من نفس المنطقة، كنت أسير وزوجتي، وقد لبست قميصا يزينه علم البحرين واضحا، مررت بمجموعة من السواح الصينيين، فإذا بهم ينادون بأعلى صوت: بهرين بهرين، ثم قالوا بلغة إنجليزية ركيكة: نفط وأموال، ثري ثري! ضحكت، لم أجد غير الصمت، ولم أرد حينها أن أعلن تصريحا أو أصدر توضيحا. الحمد لله على كل فضل تفضل به علينا، ولكن حسبي بأني أعرف حال الكثيرين ممن لا يجدون قوت يومهم، وأعرف الكثيرين وسمعت عن الأكثر، ممن تكاد أسقف بيوتهم أن تخر عليهم، ولا يجدون لإصلاحها سبيلا، الفقر ينهش الناس في كل مكان، وفي الخليج أيضا، ولكن المؤسف، أن حظ الثراء، وافر في كل حين، حتى في علو الصوت.

15 يناير 2020

انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني