إشاعة

يحكي الروائي الأرجنتيني (خريستو فات) في رائعته (برومر) والتي يعني اسمها (الإشاعة)، عن سجن ملحق بمقر شرطة القرية، يقبع فيه مجرمان زج بهما فيه منذ زمن ولا يعلم عن موعد خروجهما أحد، وضعهما مأمور السجن بجواره ليكونا تحت عينيه فلا يتمكنان من الهرب أو الشغب.

لم تكن لديهما للترفيه من وسيلة، غير أنهما مع جريان الزمن، وفي أوقات محددة كل يوم، وجدا أن الحياة في الخارج أشبه ما تكون بمسلسل يسير وفق توقيت دقيق ومحدد، كانت النافذة أعلى الزنزانة، متنفسهما الوحيد، إذا طلع الصباح أخذ كل منهما زاوية للاستماع – من خلال النافذة – لأخبار اليوم، التي يرويها بائع الصحف، في الظهيرة يقف بائع متجول يغني كل يوم أغنية حزينة أحيانا وسعيدة أحيانا، الأمر متوقف على حالته العاطفية، قبيل المساء، تحكي أم لطفلتها قصة في الجوار، في وقت الانتظار، حتى يصل رب الأسرة العائد من عمله، ثم تمضي الأسرة من المكان إلى بيتها، لم يعلم السجينان وجهة الأسرة طبعا، ولكنها معلومة أهداها (فات) للقارئ، قصص وأغان وأحاديث، غزل وشجار، عتب وحوار، وغير ذلك من الأحاديث التي كانت تسلية لصاحبينا، المجرمين.

هب أحدهما مرة وكأنه سمع صوتا مميزا، إنه أحد أصحابه، يعرف صوته جيدا، طلب من زميله أن يساعده في الصعود إلى الأعلى، رفعه على كتفيه ليسترق النظر من النافذة، وكان صاحبه في انتظاره، كان حديثا سريعا، اتفقا من خلاله على تكرار هذه الزيارة غير القانونية، وهذا ما كان بالفعل.

السجين الآخر، بدأ يملّ من مهمته في إسناد صاحبه كل مرة، ففكر في حل للمشكلة، ثم اهتدى لحل فيزيائي ذكي، كانت زاوية السجن العلوية المقابلة للنافذة، مقوسة بعض الشيء، فكر صاحبنا المجرم، أن نقطة ما في الخارج يجب أن تتلاقى فيها الأصوات مع نقطة ما في الداخل، من خلال انعكاسها على ذلك القوس، أي أن زميله في الزنزانة يستطيع التحدث مع صاحبه في الخارج إذا اتخذ كل منهما موقعه الصحيح وفي النقطة المناسبة، وبعد اختبار الأمر مع الصديق في الخارج، حُددت النقاط، وتغيرت طبيعة الزيارة تماما، بل وتعدد زوارهما بعد ذلك.

ولأنهما مجرمان، فكرا في حيلة قد تكون سبيلهما للهروب من السجن، ولعل اختيار (فات) لاسم الرواية، كان من وحي هذه الحيلة.

أخذا موقعيهما في النقطة المذكورة داخل السجن، وانطلقا في أحاديث ممنهجة، عن مأمور السجن وخطته الإجرامية في التنكيل بأهل القرية، لبسط نفوذه وإحكام سيطرته، لا شك أن عابرا ما، كانت أسماعه تستقبل الخبر في كل مرة، أصدقاؤهما في الخارج ينقلون لهما الأخبار، فيطمئنان على سير الخطة، أهل القرية يتهامسون بأخبار المأمور، أخذت وتيرة الإشاعات بالتصاعد، المأمور قد يحرق القرية، “ما ذنب الأبرياء!”، هكذا تساءل السجينان.

 في يوم ما وقبيل ساعة الصفر التي زعمها السجينان، اقتحم الثوار مقر الشرطة، كُسرت الأقفال، وفُتحت السجون، فيما فرّ المجرمان – وقد نجحت خطتهما – إلى قرية أخرى أو ربما إلى بلد آخر بعد بلوغ هدفهما المرجو، ربما أحرقت القرية، ربما سُحل في شوارعها المأمور قبل إعدامه، ربما وربما، لا يهم، المهم، أن الإشاعة قد حققت الغاية، ألا يهون كل شيء، في سبيل الغاية؟

بالمناسبة، لا تحاول البحث عن (برومر)، فليس لـ (فات) رواية بهذا العنوان، ليس ثمة روائي بهذا الاسم أصلا..

20 يناير 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني