قصر

وقفت أتأمل المشهد وكأني في مشهد أسطوري من تلك القصص التي تروى للصغار، قصر هائل، لا يرى منه غير واجهته، يتربع على تلة مرتفعة، يغطي الضباب سفحها وأجزاء من أسوار القصر، كيف السبيل إلى هناك؟ لم أهتد للجواب حتى أخبرني المرافق: استعد، ستخوض اليوم تجربة فريدة لدقائق أو سويعات، وستدخل إلى ذلك القصر وكأنك صاحبه.

أنا؟ وكيف؟ قال: كان الملوك يبنون قصورهم إما وسط البحيرات، أو على قمم التلال والجبال، وذلك لضمان عزلتهم والحفاظ على حرمهم من العامة، كما ترى، لا يمكنك الوصول إلى بوابة القصر مشيا، والسيارات ممنوعة من التقدم أكثر، لذلك، وكما كان يفعل ملوك هذا القصر من قبل، ستعتلي ظهر الفيل، ليأخذك إلى بوابة القصر الواسعة، والتي صممت بهذا الشكل وهذا الحجم لتستقبل الملوك من أمثالك _ قالها وهو يضحك – على ظهور الأفيال.

قلعة أمبر في مدينة جيبور عاصمة إقليم راجستان
المصدر: www.remotelands.com

تجاهلت سخريته، حسنا، لا بأس، جلست على ظهر الفيل بالفعل، وأخذ يتهادى بي يمنة ويسرة، وكأني في مركب تعبث به الرياح، لم أكن الملك الوحيد في تلك التجربة، الأفيال من أمامي ومن خلفي، يبدو أن المرافقين جميعهم يستخدمون الدعاية نفسها، بدأ الفيل يصعد، ويصعد حتى وصلنا النقطة التي بدا فيها المنظر من أعلى القصر، المكان الذي كنت أتأمل منه القصر قبل قليل، كل هذا القصر لملك واحد وأهله وحرمه، وتلك القرية أو المدينة التي لا تكبر عن القصر كثيرا، كلها، لألوف مؤلفة من البشر؟

دخلت – والفيل يحملني – إلى ساحة القصر، أعمدة مزخرفة وأقواس هنا وهناك، الساحة، كأنها ضرب من الأحلام، شيء مبهر وعجيب بحق، لو استبدلت الصورة الحاضرة، بصورة من وحي خيالك، وأضفت عليها مزيدا من الخيال المركب، صوتا وعطرا وصورة وهيبة، لدخلت إلى ذلك الماضي من بابه الواسع، وعشت التجربة حقا كما أخبر المرافق الذي غاب عن الأحداث هنا، ليتركني في ساحة القصر، مثل ملك قاصر، أُلبس تاج المُلْك ولم يفقه من الملْك شيئا. بدد خيالاتي وأحلامي صراخ الباعة الجائلين، أحدهم يريد أن يبيعني عمامة ألبسها كالأبله، ليلتقط لي صورة بين أروقة القصر، وآخر يريد أن يبيعني قلادة زعم أنها تجلب الحظ، وثالث يجري خلفي بعملة معدنية ادعى أنها نادرة ندرة الحظ على أسوار هذا القصر، وأنني سأصبح ثريا لو وجدت من يقدرها فيشتريها!

في الحقيقة، عدت وقد انتهت زيارتي للقصر، بل للمدينة بكاملها، لم يسلب تفكيري شيء، أكثر من منظر المشردين والمعدمين في الخارج، وأصوات الباعة في ردهات القصر وعند أسواره، وأطفال بأسمال بالية على امتداد الطريق، يستعطفون الغادي والرائح، يلتمسون لقمة، أو دراهم معدودة تشبعهم من جوع لبعض يوم، ولا تسمنهم أو تغنيهم منه.

لا يمكن أن تبنى هذه القصور، إلا وتحمل لها أحمال تنوء بها ظهور الرجال، وتبديد وإسراف في المؤن والأموال والخيرات، ودواب تظلم، أو تهلك، وربما يهلك من البشر من يهلك أيضا، كل ذلك، من أجل قصر يتباهى به ملك بين أقرانه الملوك.

واليوم، رحل الملوك، وبقيت القصور شاهدة عليهم، يدخل إليها عموم الخلق من الأخيار والأشرار من كل مكان، لم يبق فيها خدم ولا حشم، ولا حراس ولا أوامر أو مراسم عند الدخول والخروج، كل ذلك الماضي، أصبح مجرد سطر في صفحات التاريخ، وذكرى يحكيها المؤرخون أو قصة يتلوها القصّاص، أو صورة يلتقطها سائح يباهي بها أصحابه ويشهدهم على مغامراته، ماذا استفاد الملوك يا ترى؟ بل، أين الملوك اليوم من كل ذلك؟

26 يناير 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني