مكرمةٌ

قُضيت الصلاة وانتشر الناس في الأرض، الصخب يعم المكان، كل يلملم نفسه ليغادر، هكذا الحال في سطح الحرم كل يوم بعد كل صلاة قيام، ورغم هذا الصخب وذلك الازدحام، إلا أن شعورا بالهدوء يغمر القلب وكأن عالم الصخب هذا لا ينفذ إلى الأرواح، إنما هو مظهر خارجي، أما الجوهر، فهدوء واطمئنان، وسكينة في القلب وأنس وسموّ، الحال إلى حد ما، يشبه حال الصغير، يضع على أذنه قوقعة الشاطئ فيأخذه صوت الموج، يغوص به إلى أعماق البحر في حلم بعيد عن محيطه الحقيقي، الفارق هنا، أنك لا تحتاج إلى تلك القوقعة، الهدوء يسكن روحك دون اختيار منك.

قمت مع الآخرين، أطوي سجادتي لأغادر مع المغادرين، فإذا أحد الرفاق يناديني، ويشير إليّ أن تعال! كان عند جانب السطح، مطلا على الكعبة المشرفة، ومعه شخص لا أعرفه، شاب أفريقي عظيم الجثة قوي البنية، يضع سجادته وكأنها مجرد منديل على كتفه العريض، مد يده ليسلم علي، فهز لي بدني كله، مع ابتسامة عريضة وكلمات وعبارات متنوعة من التحايا والتراحيب.

الأخ الإفريقي، اسمه سليمان، من ساحل العاج التي لم ألتق منها أحدا قبله ولا بعده، سألني: هل هذه عمرتك الأولى؟ فأجبته أنها ليست الأولى، ولم أستطيع معرفة رقمها لقدر ما رزقني الله من فضله. قال وهو يشير إلى الكعبة: هل دخلت إليها من قبل؟ قلت لا، قال: هل طفت بها أكثر من مرة؟ قلت نعم بكل تأكيد، مرة في كل عمرة على الأقل، قال: سمعت، أن هناك – ورفع إصبعه إلى الأعلى – في السماء، فوق هذه الكعبة تماما، كعبة أخرى يطوف بها الملائكة، أصحيح ذلك؟

البيت المعمور؟ هو بيت في السماء السابعة، أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، أنه في رحلة الإسراء والمعراج، رأى إبراهيم عليه السلام مستندا إليه، وأخبر أيضا، أنه لو سقط لسقط على الكعبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم “يدخله كل يوم سبعون ألف ملك للتعبد، ثم لا يعودون إليه”.

سكت “سليمان” برهة، ثم قال: يا الله، كم يكرم الله أبناء آدم رغم معصيتهم بما لا يكرم به ملائكته، الذين لا يعصونه ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون!

لم أفهم مقصده للوهلة الأولى، ولكنه لم ينتظر مني سؤالا: نحن بنو آدم، يرزقنا الله زيارة بيته مرات ومرات رغم عصياننا المستمر، فيما لا يرزق ملائكته زيارة بيته المعمور، سوى مرة واحدة مدى الدهر، منذ بدء الخليقة وحتى قيام الساعة!

وقفت أتأمل في كلامه، أحاول أن أحصي المرات التي أكرمني الله فيها بزيارة بيته فلم أستطع، ثم تذكرت كم زرت البيت وفرطت فلم أستغل مقامي فيه خير استغلال، وكم زرته وانشغلت عنه بالأسواق والأحاديث والتسويف حتى في الدعاء!

سألته: هل زرت البيت من قبل؟ قال وهو يداري ابتسامته: نعم ولله الحمد، زرته قبل عشرة أعوام، وها أنذا بكرم الله أزوره للمرة الثانية، وأرجو أن يكرمني فأزروه مرة أخرى، ولو بعد أعوام عشرة أخرى.

6 فبراير 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني