نورٌ

بين الحشود الغفيرة ، كان الفتى “ليل” يخترق الصفوف ويزيح الأكتاف، يعتلي الصخور تارة ويحبو تارة أخرى، يبغي لنفسه موقعا فريدا، يستطيع منه الاستماع إلى الخطاب التاريخي عن قرب، فيشهد الحدث العظيم بكل تفاصيله.

“الوزراء، يقفون صفا واحدا، الإيوان يعج بأهل القصر، الخدم والحرس والجواري والغلمان، الأعناق تتطاول والأعين تختلس الأنظار، تغير نظم الصفوف، وساد الصمت المكان، إنه الملك، إله الجميع هنا، يخرج من قصره ليلقي في الناس خطابه، هو ذا إذن! “ظننته أضخم بنية”، يحدث نفسه “ليل”.

وقف الملك على حافة الإيوان، وانعكاس صورته بيّن على صفحة النهر، رفع يده فانسدلت أساور الذهب مجلجلة، في يده الأخرى عصا من ذهب يمسك بها من الأعلى، عند رأس الحية الذهبية، الأبصار شاخصة، والصغار يعتلون أكتاف والديهم، إنه يوم مختلف جدا.

على الجانب الآخر هناك، يقف رجلٌ آدم، عظيم الجسم، وحيدا كأنه المتهم في ساح المساءلة، الملك، يتحدث كثيرا بعبارات طويلة لم أستطع فهم معظمها، يشير إلى ذلك الرجل بحنق وغضب، ثم يستأنف حديثه، الناس يتمتمون، فإن تحدث الملك أنصتوا، وإن تحدث الرجل صخبوا وتعالت أصواتهم، حتى تقدم أحد الرجال من الخلف وأفسح المكان، وأدخل من خلفه قوما نعرفهم جميعا، استدار الملك وحياهم، حوار لم نسمع فحواه يدور بين الجميع وذلك الرجل الوحيد هناك، انتهى الحوار، رفع الملك عصاه، وما لبث الجمع أن تفرق.

عدت إلى الدار، أحكي لوالديّ ما كان، والدي، لم يخف إعجابه بذلك الرجل، أما والدتي، فما كانت تردد غير: الأمر ما يقوله الملك، والرأي ما يرى به الملك.

مرت على ذلك اليوم أيام قليلة، سرعان ما عادت الحشود إلى موقعها، الملك يتربع على عرشه، والخدم من حوله والوزراء والأمراء، عاد ذلك الرجل، وحيدا مرة أخرى ولكن أقوى من ذي قبل، الميدان كله له، وكأنه البطل الذي لا يُغلب، إنهم يتحدثون عن مباراة دعا إليها الملك ليهزم ذلك الدعيّ أمام الجميع، كي لا تسود الفتنة، فيعتاد الناس على العصيان.

مر ذلك اليوم أيضا، لا تسمح لي والدتي بالتحدث عنه، تقول بأن الأمر بات عظيما، وأن كلمة نهمس بها هنا داخل المنزل، قد تلج إلى أسماع العيون في الخارج فيطير بها أحدهم إلى الملك ورجال الملك، ليصب علينا غضبه ويطردنا من وارف فضله.

المدينة لم تعد كما كانت، الهمس في كل مكان، والشك صار له موضع في كل قلب، لم يعد أحد يثق في أحد، الرجال يساقون إلى الموت في كل يوم، الرجل البسيط الذي ظننته مهزوما، أصبح حديث الجميع، إنه وحده، يهدد العرش بعظمته وجبروته، والدي أيضا لم يعد كما كان، أجده أحيانا في صراع مع نفسه وكأن مصيبة قد حلت به، ثم يعود مطمئنا في المساء وكأن شيئا لم يكن، أخبار ذلك الرجل تهمه جدا، ما يجعل والدتي قلقة هي الأخرى.

صحوت من نومي فزعا، خرجت مع الناس، ماذا يحدث مرة أخرى؟ انتهت الحكاية إذن، هُزم الملك، انشق البحر وابتلعه وجنوده على مرأى من الناس ومسمع، نجا ذلك الرجل، نجا مع قلة من أتباعه، لم يكن بسيطا كما ظننت، إنه نبي مرسل، أيده الله بتأييده حتى زلزل به عرش الطاغوت، فاستراحت البلاد، وعاد الأمن، ينعم في ظله العباد.

بعد ذلك اليوم، أحب والدي تغيير اسمي من “ليل” إلى “نور” وأحببت ذلك أنا أيضا”.

10 فبراير 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني