أستاذ

إنه اليوم الأول في الفصل الدراسي، من بعد عطلة صيفية طويلة، مليئة بالترفيه والتغيير والأحداث، لا شك أن هذا اليوم ثقيل على الجميع، دعك من تلك الخطط المثالية التي نعزي بها أنفسنا لتعويض ما مضى، دعك من أولئك الذين سبقونا إلى الصفوف الأمامية، يلتفتون بين الحين والحين بابتسامتهم المستفزة، وكأن التحصيل مبني على ذلك السبق، دعك من كل الأفكار الإيجابية، حتى وأنا أكتب هذه الأسطر، وبعد تخرجي بأكثر من خمسة عشر عاما، شعرت ببعض الضيق من مجرد تذكر ذلك اليوم، فكيف بي في تلك الأيام؟

كان اليوم ثقيلا علي أكثر من غيري، بطبيعتي، أخشى كل جديد وأهرب من كل تغيير، أتوجس من اللحظات الأولى في كل شيء، كيف سيكون المقرر؟ ماذا عن الأستاذ؟ من معي من الزملاء؟ كيف سأوفق بين كل المقررات؟ أسئلة بديهية لكل طالب، ولكنها تأخذ عندي أكبر من حجمها الطبيعي، حتى بالمقارنة معها عند زملائي.

هذا كله، بالإضافة إلى عودتي بالأمس فقط من إجازة طويلة قضيتها في البحرين مع أهلي وأصحابي، ما بين رحلات وسفر وراحة ما بعدها راحة، الشعور بثقل العودة إلى مقاعد الدراسة طبيعي، ولكن لا مفر منه.

أخذت موقعي منتظرا تشريف الأستاذ، الصخب يعم المكان، الأخبار والأحداث كثيرة عند كل الطلبة بعد هذا الغياب، هدأت الأصوات بالتدريج، وصل الأستاذ، بقي صامتا يرتب أوراقه، يقرأ بعضها ويبعد بعضها الآخر، يرفع عينيه إلى المدرّج ثم يواصل القراءة، استمر على ذلك الحال دقائق لا أستطيع عدها، لكنها طالت عليّ جدا وأنا أنتظر كلمة أتفرس بها في شخصه.

أعطى الأوراق لأول طالب أمامه، وطلب منه تمريرها لتصل لكل طالب نسخته، وصلت إلي نسختي والأستاذ لا يزال صامتا، كان أول ما وقعت عليه عيني في تلك الورقة، رمزا لوجه مبتسم، على يمينه عبارة محددة بإطار عريض، كتب فيه: ابتسم، أنت أمانة عند الأستاذ منصور، لا شيء يستحق القلق.

كانت تلك العبارة كفيلة بتبديد كل مخاوفي، رغم أن المقرر متعلق بتخصص بعيد جدا عن تخصصي ولكني ملزم بدراسته، الكلمة الطيبة التي افتتح بها الأستاذ منصور معرفتنا به، جعلتنا جميعا نبتسم دون شعور، كل منا يري صاحبه ما قرأ للتو، ارتفعت الأوراق لا شعوريا، كل يشير إلى ذلك الإطار، وكأنه سحر، هو بالفعل سحر، استطاع به الأستاذ أن يكسر الحواجز والشكوك في قلوبنا جميعا.

في الوقت نفسه، كان لي صديق يحضر مقررا آخر، مع أستاذ آخر بنفس المؤهلات التي يحملها أستاذنا منصور، التقيت صديقي في الاستراحة ذلك اليوم، وأخبرته عما كان في محاضرتنا الأولى، كان الإحباط واضحا على وجه صاحبي قبل أن أحدثه الخبر، وأصبح بعد حديثنا في حال أسوأ.

كان الأستاذ يونس ولا يزال، أحد الأساتذة الكبار في تخصصه، مشهورا مخضرما، تستقبله المحطات والقنوات للفوز منه برأي أو تصريح أو استشراف لأمر يتعلق بتخصصه، دخل على طلابه في يومهم الأول، عرّفهم بنفسه وخبراته ومؤهلاته، ثم رفع سبابته وقال: والله! لا ضير عندي في رسوب الجميع هنا! انتهى كلامه..

الكلمة الطيبة صدقة، مفتاح القلوب وزينة الأخلاق، يسكن بها الغضب ويجلو بها الهم، هي رسالة الأنبياء التي حملوها بأمر الله تعالى إلى أقوامهم، بل حتى إلى أعدائهم، روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “لولا ثلاث، لولا أن أسير في سبيل الله عز وجل، أو يغبر جبيني في السجود، أو أقاعد قوما ينتقون طيب الكلام كما يُنتقى طيب الثمر، لأحببت أن أكون قد لحقت بالله عز وجل”.

كانت معرفتي بالأستاذ منصور، شرفا عظيما، كانت كلماته خير سلوى لي في ذلك الفصل، بينما مرت الأيام على صاحبي ذاك وكأنها أعوام، أهمل كل المقررات الأخرى من أجل مقرر الأستاذ يونس، الذي لم يستطع أن يكسب قلوب أبنائه فيفوز بدعائهم ومحبتهم واحترامهم، رغم ما آتاه الله من العلم والفضل.

إن قدر الله لك يوما أن تكون على رأس عمل ما، أو أن تكون مسؤولا عن فريق أو مجموعة، عن طلاب أو موظفين أو زملاء عمل، اجعل قصة الأستاذ منصور ميثاقك في التعامل ابتداء من يومك الأول، لن يضرك ذلك في شيء، لن تبذل فيه من جهد ولا مال، أما عوائده، فسعادة في القلب وراحة في البال، ودعوات يحفظك الله بها في الدنيا، وينجيك بها من كرب الآخرة، بإذنه تعالى.

*أستاذ بمعنى دكتور جامعي

11 يونيو 2020
انشر الرابط

تعليقات

  1. الوالد بو معاذ 29 يونيو 2020 at 11:01 ص

    الله يبارك في قلمك كلام مرتب واسلوب طيب.. بوركت يابوجاسم

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني