جلالة السلطان

في الحرم المكي قبل أشهر، أسندت رأسي على أحد الأعمدة وبدأت أتأمل المكان حولي، الناس بين مصل وداع وراكع وساجد، والكل في جو روحاني وتبتل وخضوع، لا شغل يشغلهم ولا شيء يثنيهم عن عبادتهم، إنها لذة العبادة التي نفقدها هنا في غمرة الحياة وملهياتها، ما أروعها من لحظات تلك التي نجعلها لله، له وحده سبحانه، عندما نترك الدنيا هنا لنجدد عهدنا مع الله في أطهر بقاع الأرض، فترتقي النفس إلى باريها، وتعلو عن سفساف الحياة، لتنشق نسيما من نسيم الآخرة ونعيمها، جعلنا الله من أهل النعيم.

وفي أثناء انشغالي وتفكيري، لفت نظري مشهد رائع، لكأنه مشهد تاريخي يعاد أمامي حيا، اعتدلت في جلستي وبدأت أتأمل، وإذا المشهد كما كنت أتخيله دائما، لم أتمالك ابتسامتي، إنه هو، إنه السلطان رحمه الله، لقد كان شيخا تركيا يجلس على أحد كراسي الحرم، والأتراك – دون غيرهم – يتسابقون للسلام عليه، فخيل إلي أنه السلطان في صورته وهيبته، وبالفعل فإنه كان يجيد الدور الذي اخترته له، رجل في الستين من عمره يكسو الشيب لحيته، وقد لف رأسه بعمامه بيضاء، عليه علامات الهيبة والوقار، له ثقل في كلماته وحتى في ابتسامته، وجدت أولئك الأتراك يقبلون يديه ويحتفون به، وهو يسحبها رافضا منهم التقبيل، والواضح أنهم جميعا يعرفونه، وهو لا يعرفهم، غير أنه ما بخل عليهم بابتسامته ولا بأحاديثه وسلامه.

كنت أتساءل، من هو يا ترى؟ هل هو السلطان حقا كما تخيلت؟ أم هو سليل تلك الامبراطورية الإسلامية العريقة، التي ذهبت ضحية الخيانة والتكاسل؟

عاد الشيخ إلى كرسيه وخلا المكان من الناس سواه، وأنا الذي أتابعه من بعيد، أسند رأسه على راحة يده، وبدا يتمتم بما لم أستطع فهمه، لمعت عيناه لوهلة، فسارع بمسحهما بكفه واعتدل في جلسته وكأن شيئا لم يكن.

كل المشهد الذي رأيته، لم أجد له تفسيرا، ولم أعرف من يكون ذلك الشيخ، غير أني وجدت في مشهده عودة إلى صفحات التاريخ العريق، أطلقت العنان لخيالي فكانت هذه السطور، وددت لو كان هو السلطان يؤم الحرم مع الزائرين، وددت لو كان في وسط الرعية من دون الحرس والحاشية، وددت لو صدقت خيالاتي وأصبت فيها، تمنيت، ولكن أين الأماني، وأين السلطان في الحرمِ؟

ماضٍ نعيش على أنقاضه أمماً       

        ونستمدّ القوى من وحي ذكراهُ

لا درّ درّ امرئٍ يطرى أوائله        

         فخرا ويُطرق إن سَألْته ما هُو

 

16/5/2010

انشر الرابط

تعليقات

  1. فواز إبراهيم 18 أغسطس 2010 at 11:29 ص

    تسلم يا بو ياسر..
    وتسلم يمناك ..

  2. عبدالله موسى 25 أغسطس 2010 at 9:31 ص

    مشكور بوياسر على تواصلك المستمر..
    بخصوص الموضوع فيجب أن نستحضر دوما..
    (ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون)..
    ولعل حلمك اليوم حقيقة نعايشها غدا

  3. بنت الخالدات 26 أكتوبر 2010 at 9:46 ص

    ليتك عرفت من يكون ..
    لك خيال خصب ماشاء الله ..
    أعجبتني الكلمات فسلمت يمناك ..

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني