زيارتي للقدس

زرت المسجد الحرام أول مرة عندما كنت صغيرا، في الخامسة من عمري تقريبا، ورغم مرور الأعوام لا يزال شعور النظرة الأولى باقيا في ذاكرتي، مزيج من الهيبة والسكينة والسعادة، وغير ذلك من مشاعر لا تُحصر في بضعة أسطر، كنت صغيرا، لم أستطع أن أحبّر الدعوات والأمنيات، أو أن أعبر عن فيض المشاعر وتلاطم العبارات، كنت أتأمل الكعبة تارة وقد بدت لي أكبر كثيرا مما توقعت، ثم ألتفت ناحية والدي أو والدتي، هما يفعلان الشيء نفسه، ابتسامتهما لا تنسى، رغم أنها لم تكن زيارتهما الأولى، سعادتهما كانت ممزوجة بسعادتنا، أنا وأخي الأكبر.

الشعور نفسه، مع مشاعر تضاف لها أسباب متعلقة بالعمر وطول الانتظار، ومشاعر لا توصف من قبيل تحقيق الأحلام وبلوغ المنى، كانت تتزاحم في داخلي، عندما لاحت قبة الصخرة من بعيد، يزيدها جمالا انعكاسها على لجّة الماء في ساحة الأقصى، والمصلّون يؤمّون المكان من كل صوب، صورة أشبه بالخيال، حتى أن والدتي، لم تنطق بكلمة، كانت تتطلع من نافذة السيارة في اندماج غريب، تضع كفها على وجهها لتتدارك دمعتها قبل أن تسقط.

السائق المقدسي كان يختلس النظرات إلي، يتبسم ويشيح مرة أخرى، يعرف جيدا مشاعر أمثالي، وقد كانت زيارة الأقصى بالنسبة لنا ضرب من ضروب الخيال، لا تفصلنا عنه الآن سوى هذه الخطوات، كان المشهد خاليا من الأصوات، وكأن موسيقى من خارج المشهد قد دخلت علينا، تحكي أنغامها ما يختلج في الصدر من مشاعر طال مكثها وقد آن لها اليوم أن تتفجر.

لم ألتقط الصور كما أفعل دائما، لا أدري حتى الآن كيف لم أفعل، وأنا الذي لا تفوتني أبدا، هوايتي القديمة في توثيق اللحظات.

منذ أن كنا صغارا، كان الأقصى حاضرا في بيتنا، والقضية الفلسطينية حيّة لا تؤثر عليها مجريات السياسة، ملصقات القضية في كل زاوية من زوايا المنزل، الكوفية الفلسطينية، صورة لقبة الصخرة وأخرى للمسجد القبلي، علم فلسطين وخارطتها، كل ذلك وأكثر منه، الصحف المحلية التي تتصدر صفحاتها الأولى أخبار القضية الفلسطينية، نشرات الأخبار، حتى مجلات الصغار لم تخل من قصص البطولات وملاحم المقاومة، لم يكن ذلك الاهتمام محصورا في بيتنا فقط، إنما هو دأب الناس جميعا، أو دأب أغلب الناس من حولنا.

منذ بضعة أعوام، عرضت إحدى الأخوات المقدسيات عرضا مغريا بالنسبة لأمثالي، أن تقوم بتصوير أسماء الراغبين من أمام قبة الصخرة ومن ساحة الأقصى، فكنت أحد المسارعين، ظننته شعورا جميلا، أن يسبقني اسمي إلى الأقصى، أردتها بشارة خير، لعل الله يكتب لي التواجد في المكان نفسه ذات يوم.

كلما زرت مكة أو المدينة، دعوت وتمنيت، أن ييسر الله لي شد الرحال إلى المسجد الأقصى المبارك، فحقق الله لي ذلك مع والدتي في الرؤيا التي كانت تشبه الحقيقة، حتى أني أذكر منها كل شيء، كل شيء، المشاعر والأصوات، وموسيقى التصوير ولجّة الساحة وروحانية المكان، كان شعورا رائعا، لم يكن الأقصى مدنسا برجس اليهود، لم نعبر البوابات أو الأسوار، كان الأقصى في تلك الرؤيا سعيدا مبتسما، عزيزا أبيا، ورغم أنها رؤيا، مجرد رؤيا، إلا أنها أحبّ إلي من واقع ممزوج بالخيانة أو الذل، زيارة المسجد الأقصى هاجس لم يهدأ فيّ يوما، وإني أخال الرؤيا التي رأيتها قبل عشرة أعوام، بشارة خير، أو تجديد أمل، لتحقيق حلم طالما تردد، أتأمله في كل حين فأجده قريبا رغم كل المؤامرات، رغم كل الصفقات والشعارات، والخيانات.

وإني لئن رأيت القدس في منامي، أحب إلي من أن أزورها مطبّعا خائنا، ألتمس الإذن من الصهاينة أو أعوانهم، سأظل على ذلك العهد القديم الذي ربيت عليه، سألقن ولدي حب الأقصى وقداسة فلسطين، لن أنزع صورة قبة الصخرة من جدران بيتي، لا بد للجيل القادم أن ينهل القضية كما نهلناها من والدينا، رغما عن كل الخونة، ستظل القضية باقية، والعزيمة ماضية، والرسالة أبدية حتى النصر، فإن لم يحقق الله النصر بأيدينا وفي زمننا، فجيل أبنائنا سيكون جيل النصر بإذن الله تعالى.

13 فبراير 2019
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني