اشتياقٌ

على السرير في غرفتي، مذاكرة اللحظة الأخيرة كما يسمونها، لم يبق على اختبار المنتصف سوى سويعات، في أول مقررات المحاسبة في حياتي.

اعتدت على تلقي اتصالات والدتي وباقي العائلة كل جمعة بعد الصلاة بنحو ساعة، ولكن الاتصال هذه المرة وردني في غير يوم الجمعة، لا بد أن أمرا مهما قد حدث.

والدتي تسأل عن استعداداتي للاختبار، لا يزال الأمر غريبا، لم يكن وقت اتصال حتى في مواسم الاختبارات، ولكن لا بد للأمر أن يتضح بعد كل هذا الانتظار، رحلت عن دنيانا دون مقدمات، إنها جدتي، لقد رحلت، استطاعت والدتي تهيئتي للخبر، ثم ودعتني ودعت لي، وتركت قرار العودة إلى الوطن راجعا لي حسب ظروف الدراسة آنذاك.

 أوترحل جدتي هكذا! بهذه السرعة وهكذا، دون وداع؟ جدتي، التي ما أساءت لأحد قط، أقولها بكل يقين، هي لا تعرف معنى الإساءة أصلا، جدتي، مدرسة الحب والتسامح، استجاب الله دعاءها، وكتب لها أن ترحل، كما رحل “بو أحمد”، جدي رحمه الله.

مر على ذلك اليوم تسعة عشر عاما، ولكن المشهد لا يزال حاضرا لا يغيب، أعادته إلي اليوم صورة، صورة لها في حوش البيت العود، ترى، متى كانت هذه الصورة تحديدا؟

هل بعد إعدادها لغداء البيت، وهي المسؤولة عنه والمدبرة لشؤونه؟ لا أتحدث عن بيت صغير لأسرة بسيطة، بل هو البيت العود، وفيه عدة أسر تعيش كلها تحت حكم رجل واحد، جدتي، كانت تخدمهم جميعا، طوعا، وكرها في بعض الأحيان، هي لا تملك ألا تخدمهم أصلا.

أو أنها كانت تسترجع ذكريات اليتم وبؤس الصبا؟ حتى أنعم الله عليها بأبي أحمد رحمه الله، وأبناء كرام يبذلون لابتسامتها كل غال ونفيس، ثم أحفاد، يجتمعون حولها لتحفّهم بابتسامتها الملائكية، وتكرر بين الحين والحين “يحفظكم الرحمن”.

أو، ربما، كانت تتنفس الصعداء، بعد يوم طويل في البحث عن طفلتها التائهة في الفريج، خرج الجميع بحثا عنها، أهل البيت وأهل الفريج أيضا، وبقيت هي تناجي ربها بيقينها المعهود، حتى عادوا، ولكن لا خبر! أطلت الطفلة (عمتي) من عل، وقد كانت نائمة طوال الوقت عند أعشاش الحمام، إنه الخبر السعيد، رغم مشقة البحث الذي لم يكن له داع.

ليس في هذه التساؤلات ما قد يكون صحيحا، لأن الأحداث قد سبقت الصورة بعقود، ولكن، هذه هي الصورة الوحيدة التي أرى فيها جدتي في مسرح الأحداث التي كانت تروي لنا حكاياتها عنه، ورغم ما في الحكايات من ألم، إلا أنها كانت ترويها بابتسامة، وترشّ على القصص بعض ما يبهجنا فلا يغلب الحزن على أحد منا.

جدتي، كنت أراها ولا زلت، أكبر مثال وأعظم رمز، في صفاء القلب ونقاء الروح وفهم التسامح، دع عنك أصحاب التصالح مع الذات ودعاة الهندسة الروحية، جدتي، كانت معلمة الحب ومربية الجميع، حتى خارج نطاق البيت، دون شهادة بل دون تعليم، رحم الله الحبيبة التي رحلت، ولم أكن حاضرا لأقبل جبينها قبلة الوداع، لعل الله يتجاوز عني ويرفع قدري، فيجمعني بها حيث لا وداع، ولا اشتياق، تذوب به قلوب المشتاقين.

14 يناير 2020
انشر الرابط

اترك تعليقاً

اسم *
البريد الإلكتروني *
الموقع الإلكتروني